السياسة لا ترحم: ما إن ينسحب المرء من دوائر السلطة والنفوذ والإعلام، حتّى يلفّه النسيان. لكن كيف ننسى ألبير منصور الذي لم يغب عن الساحة طوال نصف قرن؟ لم يرث لا الموقع السياسي ولا المال ولا الحزب ولا النفوذ المذهبي، بل جاء السياسة من عالم المبادئ والأفكار الكبرى. وفي اللحظات الصعبة بقي عند مواقفه، متمسكاً بحلم العروبة والعداء للصهيونيّة والدفاع عن الديموقراطيّة...

غسان سعود
«بقرار سوري يكاد يكون مكتوباً، أُقصِيتُ عن المسرح السياسي منذ 1992. لكن منذ ذلك الحين، كنتُ وما زلت حاضراً أكثر بكثير من الذين كان هناك قرار بإبرازهم». هكذا يختزل ألبير منصور موقعه الراهن، وصراعه ضدّ الطغيان والتسلّط في السياسة اللبنانيّة، في مواجهة سماسرة الحريّة والمبشّرين بالخيبات ومفبركي التحالفات، القابضين على الإعلام بيد ماليّة ومذهبيّة من حديد.
سبب الصمود؟ تتسارع طرقات الحبّات في مسبحته، ويتراجع قليلاً في كرسي مكتبه، معيداً الفضل الأساسي إلى شخصيته: «أنا أتمسّك بحقي في الدفاع عن الموقف الذي أراه صحيحاً، ولا أتراجع أو أهدأ قبل شرح وجهة نظري كاملة».
بهذه الشخصيّة، شقّ ابن بعلبك طريقه السياسي. كان تلميذاً في إحدى الإرساليّات الفرنسيّة وسط أبناء البورجوازيّة، حين قرّر ــــ مدفوعاً بحماسة تلازمه إلى اليوم ــــ الذهاب إلى السفارة المصريّة ليتسجّل مع المتطوعين لقتال الغزاة الإسرائيليين في قناة السويس. تلك الخطوة التي ماتت في مهدها، سرعان ما أسّست لتحرّكات ثورية كثيرة كان يدفعها بدايةً حلمٌ عنوانه «مواجهة الصهيونيّة»... ثم أضيفت إليه الرغبة في الدفاع عن الفقراء والضعفاء.
لكن لماذا ينحرف إلى هذا الاتجاه ابن عائلة كاثوليكيّة تتمتّع بوضع مالي جيّد؟ «جدي هاجر شاباً إلى الولايات المتحدة حيث عمل بجهد في التجارة ليتمكّن من تعليم والدي الذي كان أول طبيب في منطقة بعلبك ــــ الهرمل. من هنا، فإن وضعنا المادي المتوسط كان نتيجة جهد وعمل مضنيين. والأهم، على صعيد نضجي السياسي والاجتماعي، هو لقائي الفكر الماركسي في الصف الأول ثانوي. هذا اللقاء كان مهماً جداً لتطوير فهمي للأمور، ومقاربتي لكل ما يواجهني في الحياة. وأستطيع القول ــــ من دون تردد ــــ إنّ مَن لا يتعمق في الفكر الماركسي سيجد صعوبةً في مقاربة الواقع السياسي بفهم عميق».
في تلك المرحلة، كان منصور الشاب مفعماً بالحماسة، حاول الحفاظ على الروح التغييرية عبر انتسابه إلى حزب البعث، لكن سرعان ما تركه بعد سنتين (1961). هل خلّف ذلك نقطة سوداء في سجله؟ يبتسم رجل السياسة المتواضع مجيباً: «لا أبداً، تركتُ الحزب لأنّني اختلفتُ مع توجّه قيادته. ولم يضايقني هذا الموضوع مطلقاً. منذ تركت البعث، بدأتُ نهجاً مستقلاً».
برأيه أنّ التجربة الحزبية، حتى في الغرب، قد تصبح عائقاً بوجه الديموقراطيّة التي «ظهرت نتيجة بروز الفرد في مواجهة الجماعة». وهو، يقول بكل ثقة، إنّه ضد الأحزاب بالمطلق. ويفضّل اللقاءات التي بدأها في مطلع شبابه بلقاء كتلة بعلبك ــــ الهرمل، ثم شارك في لقاء الجبهة الوطنية مع العميد ريمون إده، ومنه انتقل إلى لقاء الحركة الوطنيّة مع كمال جنبلاط (عيّن أمين صندوق الحركة)... كلّ هذا قبل أن يشارك في تأسيس لقاء الإصلاح مع رؤساء الحكومات السابقين، فاللقاء الوطني عام 2005 (هو الذي أطلق عليه الاسم)، وأخيراً حضر اللقاء المسيحي الوطني (بصورة استثنائية إذ لم يسبق له المشاركة في أي تجمع طائفي).
يقول إنّه في الصراع المحلي مع توجّه العماد ميشال عون والوزير السابق سليمان فرنجيّة، وضد مسيحيي 14 آذار (وصفهم مرّة بالخدم لدى تيار «المستقبل»)، لا لموافقته على مضمون الوثيقة «ذات الرؤية الضيقة»، بل لاعتقاده، أنّ نجاح المسيحيين في الشرق يرتبط بنسيانهم أنّهم مسيحيون، ليساعدوا المسلمين على نسيان أنّهم مسلمون، فيلتقي الاثنان على قاعدة التضامن والمساواة التي هي العروبة.
هذه اللقاءات كرّست حضور منصور، الشخص الذي لم يرث لا الموقع السياسي من عائلته، ولا المال، ولا الحزب، ولا النفوذ المذهبي. ولم يأتِ لا من العسكر ولا من حزب بل فرض نفسه بنفسه.
أما السؤال عمّن يشبهه في مسيرته وسط السياسيين الجدد، فيستدعي من الرجل الأنيق حركةً خفيفةً في كرسيه، وبرمة سريعة لعينيه في فنجان القهوة قبل أن يختار اسم غازي العريضي «الذي فرض نفسه بنفسه»، مستدركاً: «جيلي ما زال شاباً، يملك وقتاً ليكون نموذجاً يحتذي به جيل جديد». وفي هذا السياق، يشدّد على أهمية قانون الانتخاب الذي يمكن أن يفسح المجال أمام القوى المستقلة، وخصوصاً إن اعتمدت النسبيّة.
وسرعان ما تتكشّف أكثر شخصيّة ألبير منصور، حين يبدأ الكلام عن العائلة، وهي أساسيّة بالنسبة إليه. هو الذي يتوقّف عند زواجه بآمال فرح كأحد أهمّ تواريخ حياته، نظراً إلى الدور الذي أدّته على صعيد توفير استقرار عائلي «مهم جداً» للنجاح في الحياة السياسيّة. أمّا الأولاد، فـ «شأن مستقل» ليسوا أبداً «تكملة للآباء». ويفترض بالتالي التعامل معهم على أساس أنّهم حالة قائمة بحد ذاتها. هذا الأب لثلاث صبايا وشاب يعمل في البرازيل، يرى أنّ ما من وراثة في السياسة، والوراثة نهج لا يعوَّل عليه... «وعلى كل مهتمّ أن يشق طريقه بنفسه ويختار رؤيته للعمل العام». وهو يؤكّد أنّ الوراثة السياسية وغير السياسيّة عبثيّة، متوقّفاً عند تفاهة الأمور العابرة وأهميّة اللحظة، رافضاً الكشف أكثر عن نظريات شخصيّة لا يجوز تعميمها. وبضحكة تختزن كلاماً كثيراً، يقول الصديق السابق لكمال جنبلاط إنّ «على اللاهثين وراء إنقاذ العالم أن ينقذوا أنفسهم بدايةً ويتركوا الآخرين. فالأهمّ من كل شيء أن يكون الإنسان مرتاحاً مع نفسه».
لكن، إلى أي مدى سَرقه تحدي إثبات نفسه في عالم السياسة من حياته الاجتماعيّة؟ «صحيح، أخذت السياسة جزءاً كبيراً من حياتي الاجتماعيّة، لكنّني حاولت قدر المستطاع أن أحافظ على أصدقائي. وفي الحقيقة، حين ألتقيهم أشعر بارتياح وفرح».
وهل يتمنّى أن يكون محلّهم، بعيداً عن هموم السياسة؟ يزمّ شفتيه قليلاً، قبل أن يجيب: «لا، أنا لا أعرف الحسد. أعمل كل ما أرغب فيه، لست مأسوراً بخطوط حمراء في حياتي الاجتماعيّة». يرقص مثلاً؟ «بعمري ما رقصت لا فرنجي ولا عربي، ولم أتعلّم الدبكة رغم أنني بعلبكي». ما هي هواياته إذاً؟ «قليلة جداً وتنحصر بالقراءة والكتابة».
اليوم، يضع ألبير منصور اللمسات الأخيرة على كتاب جديد، يحار بعنوانه «لبنان أولاً، نعم، لكن أيّ لبنان؟» أو «لبنان بين ردة وريادة ... قراءة ثانيّة للانقلاب على الطائف». كتاب يصوّب رؤيته في عمله السابق «الانقلاب على الطائف»، ويشرح أنّ العقدين الماضيين شهد خلالهما لبنان مشروعاً سعودياً بوصاية سوريّة.
وقبل أن نهمّ بالمغادرة، يستدرك ألبير منصور بأنّ ثمّة شيئاً ناقصاً: «صعب أن تكتب عنّي ولا تذكر أنّي أقول إن مستقبل لبنان مرهون بموقفه من الصراع العربي ــــ الإسرائيلي. هذا الصراع الذي لن ينتهي بـ «أونطة» السلام العادل والشامل. وما يُحكى عن لبنان العظيم هو «غرغرة شوفينيّة» هدفها تحويله إلى ملهى لأثرياء الخليج. من هنا، فاللبنانيون أمام خيارين: إمّا أن يراهنوا على ترف الحياة السطحيّة الذي لن يكون من نصيبهم بأيّة حال، أو أن يختاروا الحقوق الوطنيّة والكرامة الإنسانيّة... وعلى الباب يحمّلنا أمانة: «سلِّم على جريدة جوزف سماحة».


5 تواريخ

1939
الولادة في رأس بعلبك
1959
لقاء جمال عبد الناصر،
في مؤتمر الشباب الآسيوي
الأفريقي حيث كان يترأس
الوفد اللبناني. بعدها بأربع سنوات، سيلتقي كمال جنبلاط
وتنشأ بينهما صداقة مميزة
1972
انتخب نائباً عن دائرة بعلبك ــــ الهرمل
1989
وزير الإعلام في حكومة
عمر كرامي الأولى
1993
صدور كتابه «الانقلاب
على الطائف» الذي انتقد فيه
عدم تطبيق الاتفاق