أسعد أبو خليل *غريباً كان أمر عبده وازن في رثائه المُفعم بالعاطفة والحب لألكسندر سولجنستين («الحياة» 8 آب 2008). فهو قرَّعَ كل النّقاد والقراء العرب لانتقادِهم (أين؟) له. أراد وازن أن يقولَ إنّه هو وحده الذي يفهم سولجنستين (وكأنه عميق أو عصيّ على الفهم مع أنه مباشر مثل رسوم بيار صادق الكاريكاتوريّة)، ووحده الذي يحقّ له تفسير أعماله. ويحاول وازن أن يقنعنا بأن تعاطفه مع الكاتب الروسي ينبع من حساسية ليبراليّة نحو من يقارع الطغيان، مع أن وازن وجريدة الأمير خالد بن سلطان لم تعبّرا عن هذا التعاطف مع كاتب أجرأ من سولجنستين، وقد يكون أكثر منه موهبة، عنيتُ عبد الرحمن منيف.
لكنّ جائزة نوبل للآداب، مثل جائزة نوبل للسلام، هي سياسيّة بامتياز وتخضع لمعايير يمينيّة غربيّة. ووازن في إطرائِه على سولجنستين لا يبدو ملمّاً بتاريخ الكاتب الروسي وكتاباته، وهنا المفارقة، مع أنّ نبرته العالية تتّسم بالاستعلائية والفوقيّة نحو القرّاء والكتّاب العرب الذين (واللواتي) لا يوافقونه الرأي في أحكامه. ويضيف وازن أن اليسار العالمي والعربي حاربا ـــ ظلماً برأيه ـــ هذا الكاتب.
ماذا يعني وازن هنا؟ كيف حارباه وعلى أي جبهة؟ وهل يتوجّب على اليسار مناصرة كل كاتب إذا كان مقبولاً من هيئة كبار العلماء في السعودية، وهي المملكة التي تحرص أكثر ما تحرص على حقوق المرأة والفرد بصورة عامة؟ ولا يكتفي وازن بهذا الحكم العام غير المستند إلى أمثلة أو أسانيد، بل يضيف هكذا فجأةً أن عرباً (ويعدّدهم هنا: قوميّون وناصريّون وشيوعيّون واشتراكيّون) ظلموه. لكننا نلاحظ أنّ هذا التعداد العام ضمّ (صدفةً طبعاً)، هكذا، أعداء آل سعود.
هل يحاول وازن أن يصفّي حسابات آل سعود السياسيّة على حساب المهنيّة والمصداقيّة الأدبيّة والفنيّة؟ لكن مقال وازن ليس استثنائياً، إذ إنّنا نلاحظ أنّ كتّاب الصحافة السعودية مُستشرِسون ومُزمجرون هذه الأيّام ضدّ كل من رفع صوته ولو مرة واحدة ضد آل سعود الكرام؟ (والكتّاب هؤلاء هم ليبراليّون، إياك أن تنسى، وإن شاب ليبراليَّتهم تأييد رجمٍ وقطع رؤوس وأيدٍ في مملكة القهر، أو الصمت عن ذلك؟).
ولا يليق بوازن أن يُحوِّل كتاباتِه النقديّة الأدبيّة إلى نسق آخر من كتابات سمير عطا الله البلاطيّة، أو إلى تلك الكتابات في الجريدة عينها التي حوّلت السفير السعودي في لبنان إلى أكبر موهبة شعرية منذ المتنبي. ما كنا نتوقع أن يصل وازن إلى هذا الدرك، وأن يتحوّل إلى ضارب مبتذل بالسيف السعودي المسلول. هو يقول إنّ «اليسار» اتّهم سولنجستين بـ«العمالة». هذا التشنيع يحتاج إلى أمثلة على أقل تقدير.
أمّا اعتراض وازن الآخر، فمفاده أن هذا اليسار (ليقل إنه يعني كل خصوم آل سعود، فيريحنا ويعفينا من المواربة) اتهم الكاتب الروسي بـ«الشوفينية» والتعصّب. لا يا سيد وازن. هذه التهمة لم تأتِ من اليسار العربي. وسولجنستين لم يلقَ هذا الاهتمام في الثقافة العربية، كما تعترف أنتَ نفسك بذلك. أي إنك تناقض نفسك هنا. كيف تقول إنّه مُهمل في الثقافة العربية وتعود لتزعم أنه الشغل الشاغل لليسار العربي. اختر واحدة يا عبده وازن. وفات وازن في حمأة هجومِه على خصوم آل سعود التاريخيّين من اليسار (وكأن اليسار لا يزال حالة جماهيريّة عريضة)، أنّ الانتقادات التي يعزوها زوراً إلى اليسار العربي إنما هي أتت من اليسار والوسط وحتى بعض اليمين في... الغرب. في الغرب، يا سيد وازن. لكنك أردتَ أن تستغلَّ مناسبة وفاة هذا الكاتب (وهو لم يُغتل من يساري عربي، يجب التصريح) لتصفية حسابات لا علاقة لها بالأدب أو بالفن، وهو اختصاصك على ما ظننّا. كم أسأتَ إلى موقعك النقدي في تلك المقالة الصغيرة يا عبده وازن. أما كان أفضل لك ولنا لو أنك انصرفتَ إلى الأدب والفن الصرف، الذي لك معرفة فيه؟
تقول إنّ النقد العربي «الكثير» و«القاسي» لسولجنستين كان بناءً على شائعات. عمَّ تتحدث هنا، لا نعلم. إذ إنك هنا مثل سائر المقالة تُعمّم وتخطب وتعظ وتُوبِّخ من دون مثال واحد. نسيتَ أن تذكر أنّ كل النقد المُوجّه لسولجنستين جاء من الغرب عينه، لأنّ الليبراليّة الغربيّة (بالرغم مما يشوبها من هنّات ومن تاريخ وحاضر من انحياز عرقي وطبقي، بالإضافة إلى حساسية في السياسة الداخلية لا تُترجم غالباً في الموقف من السياسة الخارجية) أقل نفاقاً بكثير من الليبراليّة العربيّة، وهي لا تدين بالولاء إلى آل سعود. الليبرالية الغربيّة (وحتى بعض الوسط وبعض اليمين) هي التي بلورت نقداً صارماً لمواقف متطرّفة في رجعيّتها لسولجنستين. والخطاب الذي مثّل نقطة التحوّل لم يكن في مجلس الشيوخ كما ذكرتَ (ومجلس الشيوخ لا يسمح إلا لرؤساء الدول بالمحاضرة داخل قاعتِه الرئيسيّة) بل في جامعة هارفرد في حفل تخرّج في عام 1978. ولم تذكر أنتَ كلمة عنه. هناك، أوضح سولجنستين مواقفه المنحازة للرجعيّة والمناهِضة للتقدم والتطوّر حتى في الموسيقى. ولماذا لا يحقّ لهم في الغرب ولنا في الشرق أن نعارضَه وأن نرفض منطلقاته الفكريّة من دون توبيخ منك؟ ومؤسسة «هوفر» اليمينيّة في جامعة «ستانفرد» كانت أول حاضن لسولجنستين، لكن يبدو أنك كنتَ تحاول أن تستر نقدك لليسار بزعم الليبرالية، وهذا سائد في إعلام آل سعود. كم بدوتَ غير عارف بكتابات سولجنستين عندما حاولتَ أن تجعل منه رمزاً للإخاء بين الشعوب، وأعطيت مثلاً يتضارب مع مواقف الرجل بالنسبة لموقفه من اليهود كيهود. فالرجل حمّل مسؤولية الثورة البلشفية (التي رآها الطامة الكبرى) إلى عدد اليهود الذين انضووا في صفوفها، وهناك عدد من الكتب والمقالات التأريخيّة التي كُرّست للرد عليه، ولتبيان أخطائه.
لعلّك لم تقرأ كتاباً لروسي منشق آخر (فلاديمير فونوفيتش) بعنوان «تصوير على خلفية أسطورة» الذي يستفيض في الحديث عن انغلاق سولجنستين وعبادته لنفسه، بالإضافة إلى معاداته للسامية. وحاولتَ أن تلخّص أفكار سولنجستين بربطها بفكر «المحبة». أجعلته هيبياً يا سيد وازن؟ أية محبة؟ محبة نظام بوتين التسلّطي؟
لكن السيد وازن كشف عن عدم معرفته بسولجنستين عندما عبّر عن امتعاضه لعدم معرفة العرب بكتابات الرجل «النظرية». أي كتابات نظرية، يا رجل؟ ليس له أي كتابات نظرية، إلا إذا كنتَ تتحدث عن خواطره. وتتحدث عن سيرته الذاتية «البديعة» مع أنها مقالة ضُمّت إلى كتاب محاضرات نوبل. ويضيف وازن أن ظلم الاتحاد السوفياتي لسولجنستين (الذي بدأ شيوعياً مُتطوّعاً قبل أن يهاجر نحو اليمين المتطرّف) يماثل ظلم العرب له. ماذا يعني هذا الكلام يا سيد وازن؟ نوِّرنا، دام نورك. هل جرّ اليسار العربي سولجنستين إلى السجون ونفاه إلى الصحراء الغربية؟ أما قولك إنّ تهمة الرجعية والتعصّب المسيحي التي تنطبق عليه يمكن أن تُوجَّه إلى غيره من عظام الكتّاب مثل دوستويفسكي، فهو قول مردود لأنه كاتب معاصر.
نحن لا نحاسب موقف الكاتب المعاصر من المرأة مثلاً مثلما نحاسب كتابات أرسطو المُجحفة بالمرأة مثلاً. المقاييس تغيّرت وإن كانت الفيلسوفة سيلا بن حبيب على حق عندما قالت في دراسة لها عن موقع المرأة في كتابات هيغل إنه يتوجب علينا توجيه «رؤية مزدوجة» في نقد المفكر أو الفيلسوف لنحكم عليه في داخل منظومته الفكرية (ما سماه أدورنو بما يمكن ترجمته بـ«النقد من داخل النظام الفلسفي نفسه») ونحكم عليه أيضاً بمقاييسنا المعاصرة.
ويختم وازن مقالته المفتقِرة إلى الحدّ الأدنى من المعايير العلمية أو الأدبية إلى وصف مُترجم سولجنستين العربي بـ«الجهل»، فقط لأنّه ذكر مواقف الرجل السياسية. ودعا وازن العرب إلى التصالح مع الرجل. لا يا سيد وازن. هناك منا من لا يريد أن يتصالح مع الرجل أبداً. لا تُصالح، كما قال أمل دنقل، ولو تَوّجوني... إمارة خالد بن سلطان.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)