صباح أيوب
المكان أشبه بمنزل عادي هادئ تعيش فيه عائلة صغيرة، تنتظر ربّ البيت ليخرج من غرفته ويطلب قهوته الصباحية. أيقونات قليلة وصلبان شبه غائبة حلّت محلّها لوحات تشكيليّة وكتب في كل مكان... حتى في غرفة الطعام. هكذا تبدو من الداخل «مطرانية جبيل والبترون وجبل لبنان للروم الأرثوذكس» القابعة في غابة صنوبر في برمّانا. إنّها في الواقع تشبه كثيراً ساكنها المطران جورج خضر في التواضع والهدوء وحبّ المعرفة.
هو سيّد المكان منذ 38 سنة. «ما في منّو، متواضع ويحبّ الجميع ويرعاهم»، هكذا تصف ماري (مدبّرة المكان منذ 9 سنوات)، المطران خضر وهي تُعدّ «المجدّرة» لغداء اليوم. «لا يرفض سيّدنا أي طبق أعدّه، أكله قليل... لكنّه يحبّ الشوكولا كثيراً!». يخرج «سيّدنا» من غرفته، فيتحلّق أهل البيت حوله، بول يذكّره بموعد، والشمّاس يتأكّد من تهجئة كلمة باللغة العربية الفصحى، وماري تسأل عن القهوة...
في الغرفة الصغيرة ذات الواجهة الزجاجية المطلّة على غابة الصنوبر، جلس المطران خضر على كرسيّه بين الكتب والصحف وموسيقى أم كلثوم وسيّد درويش. أرخى رأسه إلى الوراء وأغمض عينيه الزرقاوين، ثم بدأ بسرد تفاصيل حياة غنية بالأحداث والمعرفة والتقلّبات.
جورج خضر الطفل، ولد ونشأ في أحياء مدينة طرابلس القديمة (باب الرمل والزاهرية) شمال لبنان، المنطقة التي تربطه بها «علاقة رومانسية حتّى اليوم» كما يقول. تلقّى علومه في «مدرسة البنات الأرثوذكسية» لخمس سنوات، ثم انتقل إلى مدرسة «الفرير» حيث تلقّى أوّل التعاليم الدينية التي اتّسمت بانتقادها الشرس للطائفة الأرثوذكسية التي ينتمي إليها. هو الولد الثاني لعائلة ميسورة مؤلّفة من صبيّين وخمس بنات، والده عمل صائغاً ولم يعرفوا الضيق إلا أثناء الحرب العالمية الثانية.
الطالب المجتهد والمتفوّق في جميع المراحل الدراسية، عاش طفولته وحيداً بل معزولاً، فلم يلعب كباقي الأطفال في أزقّة الحيّ ولم يكن له أصدقاء في تلك المرحلة، بل كان يجد متعته ـــــ منذ سنّ السابعة ـــــ في قراءة الصحف والمجلات والكتب. «لم أعرف الصداقة إلا بعد تخرّجي في الجامعة»، يعترف المطران خضر الذي درس الحقوق في «جامعة القديس يوسف» في بيروت.
مرحلة الدراسة الجامعية تلك (1943) كانت مفصلية بالنسبة إلى طالب الحقوق العلماني. فهي المرحلة التي شهدت «أعجوبة» تحوّله من علماني إلى متديّن مدافع عن كنيسته، وهي المرحلة ذاتها التي أيقظت فيه الروح الوطنية والقوميّة. في الجامعة، تعرّف إلى مجموعة شبّان جمعهم همّ مشترك هو تعزيز الكنيسة الأرثوذكسية. وهذه المجموعة هي التي كوّنت لاحقاً نواة «حركة الشبيبة الأرثوذكسية» التي سيستفيض المطران في الحديث عنها. أما الحدث الأبرز في تلك المرحلة، فهو تاريخ 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1943، وهو ما كان يُسمَّى في عهد الانتداب الفرنسي للبنان «عيد الهدنة» الذي يحتفل به الفرنسيون. في ذلك اليوم، كان خضر يجلس في أحد المقاهي الطرابلسية حين شاهد تظاهرة طالبية احتجاجاً على اعتقال الرئيس بشارة الخوري مع بعض الزعماء اللبنانيين، فلم يكن منه إلا أن غادر طاولته والتحق بها. وفجأة بدأت الدبابات الفرنسية تتحرّك في اتجاه المتظاهرين، والجنود يطلقون الرصاص في اتجاههم. شاهد بأمّ عينيه سقوط 11 طالباً من المتظاهرين المسالمين بنيران الجنود، هكذا تبلور في معموديّة النار موقفه الوطني الرافض للاستعمار. وبدأ اهتمامه بالقضايا القوميّة، سياسةً وثقافة وفنّاً ولغة، ولا سيما القضية الفلسطينية، ولا زال مشغولاً بالمواجهة مع إسرائيل، تلك الدولة التي «حُبِل بها بالإثم وولدت في الخطيئة».
لكنّ شيئاً ما يعود ليلمع في الذاكرة الثمانينية، فيفتح المطران عينيه الزرقاوين واسعاً. «يجلّس» رأسه وينطلق في الحديث بحماسة وشغف كبيرين عن مرحلة تأسيس «حركة الشبية الأرثوذكسية» عام 1942. «كان هناك لهب مشتعل في النفوس»، هكذا يصف خضر الحماسة التي دبّت في 16 شابّاً من كلّيّتي الحقوق والطبّ في الجامعة اليسوعية. وعوا ضعف الكنيسة الأرثوذكسية في تلك الفترة، وابتعاد أهلها عنها بسبب جهل الكهنة وعدم انتظام الجسم الكنسي آنذاك. هكذا انطلق الشباب كرسل في المناطق «يبثّون التقوى وروح الصلاة في نفوس المؤمنين». اجتماعات، نشاطات تثقيفية، نشرات مطبوعة، اتصالات مع أهل الكنيسة في الخارج... حفلت السنوات العشر الأولى بالأعمال، واستجاب معظم الأهالي لـ«الحركة» التي باتوا يتعاملون معها بثقة وانفتاح كبيرين. «كنّا المكان الوحيد الذي ضمّ شباباً وشابّات، وشجّع على الاختلاط في بيئات فقيرة محافظة ومتشددة». ويضيف سيّدنا: «لم تكن هناك منافسة على المناصب بين الأعضاء، بل عمل الجميع لمصلحة الحركة والشعب والكنيسة». لكنّ هذا البروز السريع استفزّ بعض الأحزاب العقائدية التي شعر قادتها بأنّ «الحركة» باتت تجذب الشباب وتبعدهم عن العمل الحزبي... علماً بأن هدفها، يؤكد المطران بعد كل هذه السنوات، «لم يكن يوماً سياسياً، بل روحياً تثقيفياً بحتاً».
لـ«حركة الشبيبة الأرثوذكسية» مكانة خاصة في نفس المطران: «كانت عائلتي. أخرجتني من العزلة التي رافقتني في طفولتي وصباي». في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، وبعد ممارسته مهنة المحاماة لفترة قصيرة محامياً في الاستئناف، سافر خضر إلى باريس لتعلّم اللاهوت في معهد روسي: «مع دراسة اللاهوت، أحببتُ المسيحيّة أكثر، وفهمتُ العقيدة جيّداً». ثم عاد إلى لبنان بعد ثلاث سنوات، وسعى ليكون راهباً. لكن عدم توافر أديرة ورهبانية منظمة، حال دون تحقيق رغبته تلك، فرُسم خضر كاهناً في دمشق (مقرّ البطريركية) حتى طلبته رعيّة مدينة الميناء في طرابلس «حيث قضيتُ أجمل سنوات خدمتي الكهنوتية». ويردف: «أحببت العيش مع الصيادين وأهل المدينة الطيّبين. قضيت معهم 15 سنة من حياتي».
المطران الذي لا يزال يزور أهله في الشمال ليلعب مع الأحفاد، جاء قرار رسمه مطراناً على جبل لبنان عام 1970، وأُرسل إلى هناك حيث عاش ظروف الحرب كلّها. شاهد إطلاق المدفعية من تحت شبّاك غرفته تلك، وتنقّل لمساعدة الآخرين تحت القصف، ناجياً من الموت «بالمصادفة» مرات عدة.
«أنا لا أؤمن بوجود ساعة محدّدة مسبقاً للموت. فالله لا يملك روزنامة لكل شخص، وأسباب الموت معروفة: إما بيولوجية نتيجة مرض، أو عرضية نتيجة حادث ما»، يشرح المطران الثمانيني الذي لا يؤمن بأهمية عدد المنتمين إلى كنيسته، بل بالفكر الذي يجب أن يتحلّوا به، كهنةً ورعيّة. فكر جورج خضر خصب جداً، متجدد ومتشعّب. ومن لم يقرأ مؤلّفاته في الدين والفسلفة واللاهوت، وصَلته بعض أصدائها من خلال كتاباته في الصحافة. منذ عشرين سنة يطلّ من «النهار» عبر مقال أسبوعي كل سبت، حيث يحضر الدين والفنّ والموسيقى والفلسفة.
يفتخر بأنّ باب المطرانية لم يُغلَق يوماً أمام الناس من جميع الأديان، ويشيد بنجاح الكنيسة الأرثوذكسية في البقاء على الحياد سياسياً. «السياسة في لبنان معتلّة»، يقول، مستبعداً نجاح مشروع فصل الدين عن الدولة في لبنان. كل ما يأمله، أن نتوصّل إلى بناء «نظام لا تكون فيه وطأة الطائفية كبيرة». ماذا عن الإلحاد والحالة هذه؟ «ما في ملحد في الشرق»، يقول خضر «هذا مستحيل، لأنّ الدين عندنا داخل في اللغة والأرض والحياة».


5 تواريخ

6 تموز/ يوليو 1923
الولادة في باب الرمل ـــــ طرابلس (لبنان)
1942
تأسيس «حركة الشبيبة الأرثوذكسية» التي كان أول أمين عام لها
11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1943
المشاركة في تظاهرة ضد الانتداب الفرنسي كانت نقطة تحوّل في مساره الفكري
1954
سيم كاهناً بعد إنهائه دراسة اللاهوت
1964
أستاذ مادة «الحضارة العربية ــــ الإسلامية» في كلية التربية التابعة للجامعة اللبنانية، لمدّة ست سنوات
1970
مطران الروم الأرثوذكس في جبيل والبترون وجبل لبنان، وما زال في منصبه إلى اليوم