للعشوائية أحياناً منطقها الخاص الذي قد يكون ناجحاً في جانب منه. صحيح أنها لا تأخذ كل الحاجات المطلوبة في الاعتبار، إلا أن النظام «المسقط»، كما حصل في سوق الخضار بحي السلم، قد يوقع الكثير من الضرر
راجانا حمية
إنّها الثامنة صباحاً. أطلّت الفتاة من شرفة منزلها وسط الشارع الرئيسي في منطقة حيّ السلّم. تنظر إلى الشاب الأسمر المنهمك في لملمة أوساخ مرميّة على أطراف الطريق الضيّقة. يُعجبها هذا المشهد العابر. يسرقها من نهارات شارعها العشوائي المنسي منذ خمسين عاماً. يستهويها أن يشرد نظرها إلى هذا الصباح الهادئ، لا يعكّر صفوه سوى بضعة عمال يُجبرهم دوام عملهم الباكر على هذا الخرق الاستثنائي.
هذه الفتاة، تقطن «الحيّ» منذ ثلاث سنواتٍ ونصف السنة. لم تنعم يوماً بصبحيّة هادئة كهذه. فللمرّة الأولى، تصحو على صوت منبّه غير بشري. لا أحد ينادي «3 بألف يا خس»، لا أحد ينادي «بألف يا بندورة». فسوق الخضار الذي كان يربض أسفل المبنى منذ أكثر من سبع سنوات، انتقل إلى مكان آخر.
التاسعة صباحاً. الفتاة لا تزال على شرفتها تراقب الشارع يتهيّأ لنفض سباته. بدأت الحركة تدبّ شيئاً فشيئاً. المارة يتكاثرون، وصخبهم أيضاً. لكن، مع كل هذا الصخب لا شيء يوحي أنّ الشارع هو نفسه. لا شيء يذكّر أننا في حي السلم. فالسوق الذي كان «يحتلّ» الشارع الرئيسي وطريقاً لا تتّسع لسيّارة واحدة من غير سوق، انتقل في معظمه، منذ شهرين إلى مكانه الجديد في مدينة العبّاس، عند الطرف الغربي للمنطقة. وهو المكان الذي اتفق عليه كل من «برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي» و«اللجنة الاجتماعيّة في حزب الله» و«بلديّة الشويفات» المخوّلة قانوناً متابعة أوضاع الحيّ، في إطار مشروع إنهاض ضاحية بيروت الجنوبيّة.
غير أنّ قرار النقل المتأخّر الذي أتى عقب سنة وثمانية أشهر من التصديق عليه، لم يشفِ غليل سكّان شارع الحي «التحتاني» في العبّاس، رغم رضى الحيّ «الفوقاني» في الشارع الرئيسي. لا يزال سكّان العبّاس يشعرون بالتشتّت «بين سوقٍ جديد ينقصه الكثير من البضائع والدعم، وسوق قديم يحارب من أجل البقاء بصخبه وعشوائيّته رغم أنف السكّان»، كما يلفت أحد أعضاء لجنة السوق الجديد من حزب الله. ليس هذا فقط، فمعظم البائعين لم يجدوا أنفسهم بعد في أيّ من الشارعين، حيث يقضون معظم أوقاتهم متنقّلين بين سوقين، يبيعون تارة ويصطدمون تارة أخرى بعناصر «الانضباط» في معركةٍ تنتهي في أبسط الأحوال بالصراخ وكيل الاتّهامات لمتّخذي القرار.
إذاً، انقسم السوق إلى اثنين، والسكّان إلى فئتين: متضرّرين ومستفيدين، والبائعون إلى طائفتين: راضية وساخطة، وخصوصاً بائعي السوق الجديد، فيما أصحاب القرار يتوسّلون «الوقت» ليعتاد هؤلاء مسألة التنظيم في الحيّ.
ولكن في مقابل سعي أصحاب القرار، ولا سيّما حزب الله، لسدّ تداعيات غياب الدولة في الحيّ، يواجه هؤلاء الكثير من الانتقادات التي وصلت إلى حدّ اتّهامهم بقطع لقمة العيش بحجّة «تنظيم ما قبل الانتخابات»، وخصوصاً من جهة البائعين المتضرّرين في السوق الجديد. فهؤلاء يرون القرار «مجحفاً» لهم ولعائلاتهم ولزبائنهم أيضاً. وربّما كانوا «على جانبٍ من الحق»، كما يشير مسؤول لجنة الشارع الرئيسي حسن همدر. لأنّ «السوق لم ينته العمل به بعد». وقد يكون ما قاله همدر صحيحاً، فقاصد السوق الجديد، يُفاجأ بتسع «بسطات» خضارٍ فقط من أصل 120، وبثلاثة بائعين يصرفون أوقاتهم في شرب القهوة والسجائر وانتظار «زبون قد يمرّ من هنا».
بينهم يجلس سعد، البائع المصري، إلى بسطته يحادث جاره أبو محمد عند البسطة المقابلة. يتكلمان في «النقلة اللي ما عاد إلي حيل إحكي فيها»، ورغم ذلك لا يتوانى عن شرحها لك «من طقطق إلى السلام عليكم». دائماً، يبدأ سعد من الخسارات التي لحقت به نتيجة هذا الانتقال. فبعدما كان يجني «100 ألف ربحاً في اليوم» كما قال، هو الآن لا يقدر على تصريف بضاعته في اليوم نفسه. لا بل يحتاج إلى ثلاثة أيّام ليستردّ ثمن «نقلة الخضار» ويسدد الديون وإيجار الغرفة. ورغم اقتناعه بأهمّية السوق، إلّا أنّه يعتب على حزب الله، و«خصوصاً أنّه وعدنا بنقل جميع البسطات إلى هنا، إضافة إلى تنويع البسطات من خضار إلى سمك إلى لحمة ليستطيع الزبون الحصول على كلّ ما يحتاج إليه بدلاً من تشتيته بين سوقين».
يكمل أبو محمّد السيرة المحفوظة عن ظهر قلب، قائلاً: «وفوق هذا كلّه ندفع ألفي ليرة يوميّاً من أجل التنظيفات والمياه، فيما نحن من يقوم بجمع الأوساخ. أما المياه فلم نرها منذ عشرة أيّام». نسي أبو محمّد طفلته التي أرسلتها الوالدة لتأخذ «ألف ليرة حقّ ربطة خبز»، وشُغل مع الزبونة الأولى التي أتت بعد ساعتين من الانتظار. «ماذا تريدين؟ يسألها، ضعي ما تحتاجين إليه في هذا الكيس وكلّه بألف ليرة». يعود إلى سعد «كيف لكن، هيك بدنا نجيب الزبون».
سعد وأبو محمّد ليسا الوحيدين اللذين تضرّرا من قرار الانتقال. فالبائعة نهلا مرعي تعاني أيضاً. تقف أمام بسطتها التي لم يعد يوجد عليها سوى «عيّنات» من البضائع بعدما قالت إنها سُرقت الخميس الماضي! تكرّر الشكوى: «سرقوني، رحنا نشتكي للانضباط، فقالوا لنا: بيعوضك الله يا حاجّة». وتسأل: «كلّ شيءٍ بيعوّضك الله؟ الميّ بعوّضك الله والصحّة وأوساخ الحمامات والضريبة، ماذا بقي لنا؟ أكيد السيّد حسن نصر الله ما بيرضى بهالحال».
تسكت نهلا فجأة، فقد دخلت للتوّ زبونتها الأولى. تسألها: «ماذا تريدين؟ كلسات، بيجامات، كلّه بألفين، خذي ما تريدينه». الأسعار تشجيعية. فجذب الناس للسوق جلّ ما يحتاجون إليه، بانتظار زحمة رمضان وموسم الشتاء، عندما يعود الناس من قراهم.
رغم ذلك، لا يبدو الزبائن راضين عن السوق الجديد. فغادة بيرم بدت أكثر تحمساً للقديم «هنا الوضع زفت. الأسعار تغيّرت، فضلاً عن أنّني لا أجد كلّ ما أحتاج إليه». أمّا ناديا المخّ، فتضيف إلى شكواها «نوعيّة الخضار، فمعظمها ذابل، لأنّ المكان مغلق ولا توجد تهوية».
غير أنّه مقابل هذه الشكاوى، تفرح أم كميل الشوفي التي تقصد السوق الجديد من منطقة عاليه، بالتنظيم «فهنا نظافة أكثر، ونستطيع شراء أغراضنا برويّة، وأهم من كلّ هذا لست معرّضة للموت بضربة سيّارة في كلّ مرّة».
في السوق الجديد، لا يزال الجميع، سكّاناً وبائعين، يتخبّطون بين السخط والرضا. فيما أبناء السوق القديم يفرحون بالقرار، فقد بات في وسعهم التنقّل في شارعهم بحريّة، وركن سيّاراتهم أمام منازلهم والتخلّص من «تلطيش البائعين للنساء».
اتُّخذ القرار. سكّان السوق «الفوقاني» راضون، و«التحتاني» يتخبّطون، فيما «حزب الله» يحاول الخروج من «المعمعة» التي يضعه فيها المتضرّرون. يلفت الحاج ناصر، ممثل اللجنة الاجتماعية في حزب الله، إلى «أنّ القرار ليس قرار حزب الله، بل لجنة الحيّ، بالتعاون مع بلديّة الشويفات، ضمن إطار الخطّة الشاملة لإعادة إعمار الضاحية، وكلّ ما يقوم به الحزب في هذا الشأن هو لسدّ غياب الدولة وتنظيم الحي».


برنامج الأمم المتحدة ينهض بالضاحيةويأتي حيّ السلّم ضمن المرحلة الثانية لإعادة النهوض التي تستهدف إعادة تأهيل سوق العبّاس البديل لسوق الخضار والفاكهة في الشارع الرئيسي الذي تبلغ مساحته 1100 متر مربّع، بقيمة اعتماد تتراوح بين 100 و120 ألف دولار أميركي، تتنوّع ما بين تجهيز كافيتريا السوق والمساحات الخضراء حوله والتهوية والإضاءة والحمامات وتنويع البضائع. وبعيداً عن حيّ السلّم ينفّذ البرنامج مشاريع موازية في بلديات برج البراجنة وحارة حريك والغبيري والشياح وفرن الشباك والحدث والمريجة.