رشيدة ودلال المغربي وجهان يختصران تاريخ اللجوء الفلسطيني على مدى 30 عاماً. هما شقيقتان اكتشفتا حزن أبيهما باكراً، وكبرتا فاقدتَيْ الحقوق قبل أن ترسما معادلة مؤلمة: شهيدة لـ«الثورة» هي دلال، و«ضحية» لها هي رشيدة... والحلم في الحالتين: العودة
مهى زراقط

لماذا لا يضحك أبي يا دلال؟
سؤال لطالما كرّرته رشيدة بصيغ مختلفة، وراحت مع شقيقتها دلال التي تصغرها بأحد عشر شهراً فقط، تجدان له الإجابات التي ارتبطت دوماً بحزن «رجل مقاوم أُجبِر على مغادرة وطنه بعدما أصيب». باكراً انتبهت رشيدة إلى القهر الذي يعيشه والدها، وحملته معها كلّ حياتها بعد حادثة مفصلية عرفت فيها أنها ليست كالآخرين.
كانت في التاسعة من عمرها، ترافق والدتها اللبنانية وخالاتها إلى سوريا لشراء جهاز عرس إحدى الخالات. الكلّ لبنانيات إلا الطفلة. «لماذا هذه الفلسطينية بينكنّ؟» سأل الموظف عند الحدود، وأمر بالعودة إلى بيروت لإحضار أوراق تسمح بعبورها. ذلك اليوم عرفت رشيدة أنها فلسطينية، تزعج الأقارب اللبنانيين وتعرقل حياتهم الطبيعية. كان السؤال الأول الذي طرحته على والدها عند عودتها إلى البيت: «احكِ لي عن فلسطين. أين أقاربي الفلسطينيين؟».
تأثر الوالد يومها، لكنه لم يتردد في الحديث الذي كان يتكرّر مضافاً إليه كلّ مرة المزيد من التفاصيل، إلى أن اكتملت عناصر القصة: «كان بابا من الذين يقاومون الاحتلال وأصيب في إحدى معارك الدفاع عن يافا. وضعه الثوّار على متن قارب كان متجهاً إلى لبنان وأرسلوا جدتي معه وبعد أيام قليلة من وصوله توفيت جدتي».
رشيدة التي لا تحبّ الحديث عن نفسها كي لا تأخذ حقاً من حقوق دلال عليها، وهي المقصّرة حسب تعبيرها، تهرب إلى الحديث عن الوالد الذي تختصر علاقتها به، علاقتها بفلسطين. «كان في آخر العشرينيات من عمره عندما غادر فلسطين. عمل في البناء إلى أن التقى برجل لبناني عمل عنده فترة طويلة ووثق به فأدخله بيته وتزوّج إحدى بناته». لم يكن الوالد متعلماً، «ولكي يواسيني بعدما لاحظ اهتمامي بالوطن صار يطلب مني أن أكتب رسائل لأعمامي في السعودية أو الكويت».
في عام 1970، بدأ الهلال الأحمر الفلسطيني عمله في لبنان، وكان يبني «مستشفى القدس» عند حدود مخيم شاتيلا. أسهم الوالد في إعمار المستشفى متطوّعاً رغم تعب النهار، «كان يعود منهكاً برجلين داميتين بسبب المسامير، وكانت أمي تقول له: ما الذي يجبرك على القيام بكلّ هذا العمل مجاناً؟».
لماذا يعمل والدي مجاناً؟ كان السؤال الذي دفع رشيدة إلى طلب التطوّع في الهلال الأحمر الفلسطيني وهي في العاشرة من عمرها. لبى الوالد رغبتها هرباً من نوبات البكاء الطويلة التي كانت تستقبله بها كلما عاد مساء وعرفت أنه يتهرّب منها. «طلب من الدكتور فتحي عرفات (شقيق الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات) إذناً ليصطحبني، وبدأت أتعلّم طيّ الشاش»... ومع الوقت تعرّفت إلى حركات المقاومة الفلسطينية التي كانت بدأت تتأسس في لبنان، انضمت إلى «الثورة» وعملت قبل عام 1973 تحت قيادة أبو يوسف النجار.
في 10 نيسان 1973 وقعت عملية فردان واغتيل النجار، حادثة أثرت كثيراً بالفتاة التي فقدت مسؤولها المباشر، فانتقلت إلى العمل مع أبو اياد (صلاح خلف). في هذا الوقت كانت دلال قد بدأت ترافق شقيقتها إلى الأماكن التي تذهب إليها: اعتصامات، جمع دم لإرساله إلى الجبهة، دوام في المستشفى... وخصوصاً أن حرب 73 كانت قد اندلعت، وكان على الفتاتين مهمة قراءة كلّ الجرائد الصادرة ليتابع الوالد تفاصيل الحرب. مهمة عزّزت وعياً ومشاعر حالمة بالعودة، كانت الفتاتان بدأت تحضّران لها عملياً من خلال التدريب العسكري، «كنت الوحيدة بين الشباب، أما دلال فكان معها 3 فتيات».
عرف الوالد بانضمام ابنته إلى العمل المسلّح بعدما تسرّب خبر دخول رشيدة إلى شقة يقيم فيها طلبة، ما أثار حفيظة الخال «الذي سيذبح من لوّثت شرفه». رفض الوالد السماح للخال بذبح ابنته، لأنه هو من يريد أن يفعل ذلك، لكن ليس قبل أن يعرف الرجال الذين غرّروا بها. «عندها اعترفتُ له، إذا كان لا بدّ من الموت فلتكن التهمة مشرّفة». لم تكن مفاجأة أن يبارك الوالد عمل ابنته، ويزعل منها أيضاً لأنها لم تخبره منذ البداية.
هذا ما لم تفعله دلال عندما كُلّفت بعمليتها، أخبرت رشيدة مسبقاً أنها ستدخل فلسطين وتنفذ مع رفاقها عملية كبيرة. تحمست رشيدة وطلبت من مسؤولها أبو جهاد الوزير السماح لها بأن تكون ضمن المجموعة، إلا أنه رفض لسبيين، الأوّل، لأنها كانت لم تتعافَ بعد من إصابة سابقة، والثاني إنساني «إذ يمكن خلال المعركة أن تلتفت شقيقة إلى شقيقتها». في 11 آذار 1978 كانت رشيدة في المستشفى، وكان معها كما معظم المهتمين آنذاك، راديو ترانزستور صغير تتابع عبره الأخبار. سمعت بالعملية وتابعت تفاصيلها إلى أن عرفت أن دلال استشهدت. خلال عودتها ليلاً إلى المنزل مرّت قرب مكتب ياسر عرفات، فالتقت بمسؤولين في فتح طلبوا منها عدم إبلاغ أهلها، لأن المفروض أن يذهب عرفات شخصياً ويبلغهم. دخلت إلى البيت وسمعت والدها يبدي سروره بعملية نفذّها أبطال في فلسطين، لكنه لم يشعر بسعادة مماثلة لدى ابنته «سألني ما بكِ، هل تعرفين أحداً من الشباب؟».
في اليوم التالي تأخر وصول عرفات بسبب الترتيبات الأمنية التي كان يجب اتخاذها، وخصوصاً مع الانتقام المتوقع من الإسرائيليين وكان الخبر قد بدأ يتسرّب: «وتلقّاه أبي بصبر»... لكن الأمر المؤثر كان تكليف رشيدة إبلاغ العائلة «كنت مع كلّ بيت أطرقه أشعر بأن العائلة تحمّلني أنا مسؤولية استشهادها. إحدى خالاتي قالت لي: «كلّو منك»، وزوجة خالي قالت لي قومي فلّي، كان هذا أقسى ما يمكن أن يُطلب من إنسان».
إلى اليوم لم تبكِ رشيدة شقيقتها، فهي لم تمت بالنسبة إليها «قد لا تصدّقينني، لكني لا أراها إلا أمام عينيّ. في بيتي لا صور لها، وإن وجدت، فكما كلّ صور أفراد العائلة». رغم ذلك، فإن أمراً ينغّص حياتها: «أشعر بأني لم أفِ دلال حقها. لذلك أنتظر اللحظة التي سأمسك فيها رفاتها». تخفي انفعالها وتدخل إلى غرفة ثانية ثم تعود حاملة كيساً صغيراً يحوي تراباً من المسجد الأقصى حملته إليها طالبة فلسطينية «عاملة حسابي أدفنه مع دلال إلى أن نعيدها إلى فلسطين معزّزة مكرّمة». كيس آخر تحتفظ به لنفسها في انتظار العودة أيضاً «عشت حياتي أحلم بدخول بيتنا في يافا، وأنا متأكدة أني أستطيع الوصول إليه وحدي، ما أن تطأ قدماي أرض فلسطين».


الثورة بين انتصار وانكسار

يربك رشيدة المغربي أن يكون اللقاء معها وعنها. لكن السيدة التي تعرّفنا إليها شقيقة للشهيدة دلال لديها الكثير لترويه عن تاريخ مرحلة كان فيها الانتماء إلى فلسطين والثورة مصدر فخر واعتزار... وبات اليوم تهمة. السيدة التي لا تستطيع أن تخفي حزناً ويأساً، تنكرهما حين يُطرح عليها السؤال، «لنحتفِ اليوم بدلال وقد نحكي يوماً»