محمد بنعزيز*‏عقب الشروع في تكوين قطب حزبي ليبرالي في المغرب، ارتفعت وتيرة ‏نقد هذه المبادرة من طرف تنظيمات اليسار، لأن تلك الليبرالية اقتصادية ‏وليست سياسية أصلاً. لكن لينظر الناقدون في المرآة ليبصروا حالهم بدل ‏تسليط الأضواء على خصومهم. ماذا تقول المرآة؟ ‏
هناك حزب اشتراكي، حزب تقدمي اشتراكي، حزب طليعي اشتراكي، ‏حزب يساري موحد، حزب بنهج مقسم وبقايا حزب اشتراكي ‏ديموقراطي... وقد سبق أن نوت هذه «الحزيبات» أن تقفز على واقع ‏التشرذم والتشتّت الذي لا يخدم إلا أعداء الطبقة الكادحة، وذلك بأخذ ‏المبادرة التي لا رجعة فيها، وإعلان الوحدة الشاملة بين القوى الحيّة في ‏المجتمع، لتفويت الفرصة على البورجوازية الطفيلية... وتناول الخيار ‏الوحيد المطروح على الطاولة، وهو تأسيس القطب اليساري الكبير. ‏ولتجنّب أخطاء الماضي، يجب فتح نقاش وطني، أفقي وعمودي، يسمح ‏بتكوّن صحيح لوجهات النظر كي تستجيب لمتطلّبات المرحلة. استمرّ ‏النقاش سنوات، وبعد الهزيمة الانتخابية لليسار، نضجت فكرة الوحدة ‏فجأة. وبالفعل، نُظّمت حفلات ولقاءات احتفاءً بميلاد الديناصور ‏الاشتراكي الذي سيزاحم الأحزاب اليمينية والإدارية والكارتونية التي ‏تعامل المواطنين كزبائن انتخابيين... ‏
وبعد أشهر قليلة، اتضح للرفاق أن ديناصورهم غير ديموقراطي. وبعد ‏نقاش دام دقائق، قرّروا تفتيت ما جمعوه، وذلك باستبدال القطب ‏بديناصورات صغيرة تخيّلوها في حجم فيلة وسمّوها «تيّارات»، وهذه قمّة ‏الديموقراطية، بحيث لا يصادر أي طرف رأي الطرف الآخر، وبالتالي ‏تتعايش مختلف الآراء، ممّا فيه إخصاب للديناصورات الصغيرة وتسمينها ‏في أفق الانتخابات المقبلة، التي سيبيّن فيها اليسار حجمه الحقيقي ومدى ‏تجذّره وسط الجماهير.‏
وبالفعل، بدأت اللعبة بتكوين أربعة تيارات داخل القطب الاشتراكي، ‏ولكلّ تيار ناطق رسمي خاص به. وقد كان لهذه الديموقراطية تطوّرات مسلّية، ‏جعلت التلفزة الرسمية تستدعي ناطقين لمحاورتها.
وفي الغد كتبت الصحف بتفصيل عن الاختلافات بين الناطقين الرسميين، ‏وذهب صحافي نبيه ليستفهم الأمين العام للقطب الاشتراكي عن موقفه. ‏ولأنه ثمرة التراضي بين الرفاق، حرص الأمين ألا يُغضب أحداً، وقال إن موقفه هو مجموع رأي التيارات الأربعة المكوّنة للحزب... وبينما كان الرفاق في ما هم فيه، حلّت انتخابات ‏تشريعية جديدة، فحصل زعيم حزب طليعي على 600 صوت في ‏دائرته، وحصل الحزب على ثلاثة آلاف صوت في المغرب بكامله... ‏بينما حصل الإسلاميون على 500 ألف صوت. سيردّ الرفاق إن اليسار ‏في المجتمع الإسلامي طائر مذبوح، ينزف لكنه ينتفض بقوة. يا سلام ‏على الشعر.
بعد هذه الهزيمة، اشتد نقد الأحزاب التي حصلت على عشرات المقاعد ‏لأنها اعتمدت على القبلية والأعيان والمال لشراء الذمم. هذه هي نقطة ‏قوة اليسار، النقد الشديد! يقول عبد الله العروي «إن النقد خلاق ما دام ‏يواجه نظاماً مناقضاً له». وجود التناقض والجدل والديالكتيك ضروري ‏لفعالية هذا النقد. قوّة اليسار ليست في داخله، بل في الظروف المحيطة. ‏والتناقض موجود، لكن اللغة خادعة، فالإعلام الرسمي نفسه يقول إنه مع ‏الديموقراطية والتعددية والحرية وحقوق الإنسان، وضد الفساد والرشوة... ‏فماذا بقي من تلك القوّة اليسارية عندما يستخدم وزير الداخلية بنفسه ‏معجم اليسار؟ عندما يرفع شعار التنمية البشرية ومحاربة الفقر والهشاشة ‏الاجتماعية، بل يقول وزير داخلية سابق إن الدستور الحالي متجاوَز؟
‏صحيح أنّ معجم اليسار قد انتشر، فإنّ هذا نصر تسبّب في مشكلة. فهذا ‏المعجم مشحون بطاقة مطلبيّة عندما يستخدمه أصحابه، أمّا عندما ‏يستخدمه خصومهم فالمعجم يصبح تقريرياً، وكأنّ ما يطالب به متحقّق. ‏فوزير الداخلية عندما يتحدث عن المساواة والعدالة الاجتماعية، فهو ‏يراها أمراً قائماً لا طلباً موجهاً لجهة ما. عندما يتحدث الوزير مثل ‏الرفاق، ماذا يبقى ليقوله الرفاق؟ ماذا يحصل عندما تُطمس التناقضات ‏وتستعير السلطة خطاب خصومها لتجيّره لمصلحتها، عندما يقرّ وزير ‏العدل بأزمة القضاء، ويتحدّث وزير التربية عن الخلل في المنظومة ‏التعليمية، ويعترف الوزير الأول بأنه لا يملك عصا سحرية، ويتباكى ‏وزير الاقتصاد من العولمة وارتفاع الأسعار؟‏
هنا نعود لجواب العروي «إن النقد خلاق ما دام يواجه نظاماً مناقضاً له، ‏وإلا انقلب على نفسه لينتقدها ويقضي عليها». إن اليساريين لم يعودوا ‏يحددون العدو بدقة. تشابه عليهم الأعداء فراحوا يرمون بعضهم بعضاً. ‏فقدوا حسّهم اليقظ بالفصل بين المسائل الاستراتيجية والتكتيكية... والواقع أنّ الرفاق ‏ينهكون أنفسهم في الجدال والنقاش. سيقول أحدهم إن هذا مظهر صحي. ‏طبعاً هو صحي لو كان الجدال هو الهدف، أما إن كان تكوين قوة ‏سياسية قادرة على معادلة نفوذ السلطة لفرض إصلاح سياسي حقيقي هو ‏الهدف، فإن الجدال يصبح سفسطة يسارية مَرَضيّة...
يبدو أنّ هذه حال الرفاق في دول كثيرة. يفهمون في نقد الأحزاب ولكنهم ‏عاجزون عن بناء أحزاب قوية. في البرتغال، ترشح للرئاسة خمسة ‏اشتراكيين أمام مرشح يميني واحد. في فرنسا، أصبح كوشنير شارحاً ‏لسياسات ساركوزي. في إيطاليا، عاد برلسكوني بابتسامته اللئيمة محل ‏رومانو برودي...‏
في ظل هذه الهشاشة التنظيمية المَرَضيّة، تنفتح التنظيمات اليمينية على ‏بعض رموز اليسار لتزيد من صعوبة وضع الرفاق. حينها يكتشفون أن ‏بينهم «خونة» تغريهم السلطة والرفاهية، ويشرعون في تبادل التهمة في ما ‏بينهم... في المغرب اليوم، وقبل عام من الانتخابات الجماعية، القطب ‏الليبرالي يتوسّع بأساليبه القديمة، بينما «حزيبات» اليسار تنتقد الآخرين ‏وتتناحر فتتفكّك، وهذا يدفع كلّ باحث عن بديل عمليّ ليتساءل بألم: ما ‏جدوى التباكي بعد الانتخابات؟
‏* صحافي مغربي