غرف الجراذين تحكم مخيلات الكثيرين، إنها المقر «الموعود» لكل تلميذ مشاغب، نسجنا ونحن صغاراً حكايات عن هذه الغرف أبشع مما تصوّره أفلام الرعب الأميركية. في المنزل أيضاً عبارات التخويف تتردد، يلجأ إليها الأهالي للحد من «شيطنة» الصغار أو لإعادتهم إلى الطريق الصحيح... ورغم ارتفاع نسبة المتعلمين وحملة الشهادات فإننا ما زلنا نبني مجتمعاً تحكمه قوانين الخوف لا الالتزام بالقانون
بلال عبود
«إذا ما بتقعد عاقل رح قول لأبو كيس» تكفي هذه الجملة التي يستخدمها العديد من الأمهات لتهديد الطفل أو منعه من المشاغبة . أما «أبو كيس» فلا يتوقف دوره عند المساعدة على تربية الطفل بل يتطور في داخل الطفل حتى يسيطر على شخصيته وأحلامه التي تتحوّل كوابيس.
حسين ف (21سنة) يدرس برمجة كمبيوتر، ويروي كيف أنه كان يمزّق كل أكياس النايلون في غفلة من والدته التي كانت تهدده دائماً بأن «أبو كيس سيضعك في الكيس ويبيعك للغجر». يصف حسين المرحلة الابتدائية والمتوسطة من حياته الدراسية بالجحيم «كنت أفضّل الانزواء على المشاركة في أي نشاط»، أخافه بواب المدرسة «كنت أتخيله هو من تتحدث عنه والدتي وخاصة عندما يقوم بتجميع القمامة من ملعب المدرسة في كيس أسود كبير».
مفردات التهديد المرعبة تنتشر في المدارس أيضاً، فبهدف «ضبط» بعض التلامذة يقوم بعض المعلمات والمعلمين بتهديد التلاميذ «بالغول» أو بغرفة الجرذان وغيرهما من أساليب التخويف التي تتحول مع الوقت إلى مشكلة تؤثر في سلوك الطفل وشخصيّته في مراحل النمو اللاحقة.
يتذكر جاد ي (25 سنة) «أم رعيدي التي كانت اللعنة الدائمة على يومياتي»، في الصف الأول الابتدائي كان جاد تلميذاً مشاغباً ... إلى أن قابل «أم رعيدي» شخصياً وهي إحدى المعلمات «صراخها المتواصل وتسريحتها الغريبة كانت تطابق الصورة التي رسمتها في ذهني عن تلك الشخصية الخيالية». ينتظر جاد وزوجته مولودهما الأول، ويقول «لن أدع ابني يتعرض للمواقف السيئة التي عشتها»، فجاد الموظف في شركة اتصالات يعترف بأنه اعتمد الكذب للهروب من المصاعب لكنه في سن المراهقة اختار الكذب «أساساً للتعاطي مع كل المحيطين بي».
العقاب الذي يتعرض له الكاذب هو أكثر ما أخاف ريما في طفولتها، وتذكر طالبة العلوم في جامعة بيروت العربية «صوت أختي الكبيرة وهي تقول إن الله سوف ينزل حبل ويشنق به من يكذب»، هذه الصورة جعلت ريما إنساناً «يرتعب من الله»، وطبع النفور علاقتها بشقيقتها و بـ«الفكر المتشدد الذي تمثله».
على الضفة الأخرى، ثمة من يرفض الجدل حول عبارات التخويف، ماجدة سليمان ترى أنّها «ضرورية» حتى «لا يفلت الطفل»، وتقول ربة المنزل البالغة من العمر 38 عاماً «لو لم يستخدم أهلنا هذا الأسلوب لانحرفنا، كل الأخطاء الكبيرة تبدأ بغض نظر بسيط»، وهي ترى أن جيل اليوم أصبح يمثّل حالة من الفساد نتيجة غياب التربية «القاسية» ولكن الضرورية بنظرها، أستاذة علم النفس نيللي حداد ترى أن استخدام هذه التعابير يأتي في إطار موضوع السلطة في البيت بين الأهل والأولاد، وتفسر اللجوء إليها بأنه «تخلي الأهل عن سلطتهم مع أولادهم إلى شيء أو حالة خارجة عن إطار الأسرة»، وهذا الأمر ينعكس على كيفية تعاطي أبناء هذه العائلات مع أفراد المجتمع «من هنا نرى أن الحل في لبنان هو دائماً من الخارج».
لا تقتصر أساليب التربية الخاطئة على ما يقوله الأهل أو المعلمون من عبارات تخويف، بل في سلوكيات أفراد مجتمعنا العديد من الأساليب التي تترك آثارها على الأولاد، كالصراخ الدائم في وجه الطفل أو أن يشهد المرء صغيراً خلافات بين أبويه. إضافة الى التعابير التي تظهر في اغنيات مصنفة للأطفال كعبارات «الذبح»، «يلا تنام تذبحلك طير الحمام» بالإضافة الى تكرار عبارات العنف في أكثر من أغنية حديثة على نسق أغنية نوال الزغبي التي تردد «يلي بفكر يجرحك برتاح منو بقتلو»، هذه الكلمات تنعكس في تصرفات الأطفال وتؤدي إلى الجنوح باتجاه سلوكيات مرفوضة أو تحول شخصية الطفل نحو العنف والتصادم مع الآخرين .
تضع الدكتورة والمحللة النفسية هنا سلام عبد الملك هذه التعابير في اطار ما يجب أن يتنبّه له الأهل، وخصوصاً لما يمكن أن يفسره عقل الطفل، فهناك دور رقابي يجب أن تقوم به الأم إن لناحية منع ولدها من الاستماع إلى عبارات التخويف، أو أن تحاول أن تفسرها له بشكل غير مؤذ «لأنه من الصعوبة اليوم أن تقوم رقابة شاملة على كل ما يسمعه الطفل ويشاهده» في محيطه أو على التلفاز.
تضيف عبد الملك إن استخدام الأهل لعبارات التخويف مثل «الغول و أبو كيس» تكون بدافع السيطرة على سلوكيات الطفل ولإفهامِه بوجودِ الـ «لا» أي المنع، ولكن استخدام هذه العبارات يعكس جهلاً في التعاطي مع الأطفال «قد يخضع الولد لأمر الأهل بسبب الخوف لا لأنه فهم السبب من المنع»، وتضيف عبد الملك إن إفهام الطفل لدور القانون والمنع أمر أساسي في تكوين شخصيته، تشدد على ضرورة أن يفهم الطفل أن القوانين والنظام تسهم في حمايته.


ذاكرتي... ذاكرة أسرتي

ذاكرة الفرد تختزن أيضاً ما تنقله إليه بشكل غير واع ذاكرة أفراد آخرين في أٍرته، لم يعد الحديث عن هذا الأمر جديداً، لكن الإضاءات الكثيرة حوله أكثر من ضرورية. وفي هذا الإطار يجدر التوقف عند كتاب «الفرد وذاكرة الأسرة» للكاتبة الفرنسية آن موكسيل «Individu et memoire familiale». موكسيل باحثة في العلوم الإجتماعية ومدير أبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية في باريس، تلفت في كتابها إلى أن ذاكرة الأسرة تختزن أموراً متنوعة كالروائح والأشياء والأمكنة والأحداث وغير ذلك، وتتنوع بين فرد وأخرى أسلوب تقبلها، كما أن الأشياء التي تُنسى تختلف بين الأشقاء.
الكتاب شيق، فإضافة إلى الجانب البحثي يختزن الكتاب قصص عن لقاءات عائلية، عن أحداث بسيطة من يوميات أفراد مختلفين... إنه كتاب آسر تم خطّه بأسلوب شيق والأهم أنه غني بالمعلومات والتحليلات.