منهج ستالين مطبّقاً في بلاد العم سام
عدي الموسوي
في عام 1916، وفيما كان الأميركيون يتحدّثون عن ضرورة النأي بأنفسهم عن أتون الحرب العالمية الأولى التي كانت نيرانها تستعر على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، كانت سلطة القرار الأميركي تصوغ المفردات المناسبة التي ستبرزها للرأي العام لتبرير انضمامها إلى معسكر الحلفاء. ولكي تنجح، بدأت بالإعداد لخطة تهدف إلى سَوق الرأي العام نحو تشكيل قناعات جديدة كفيلة بنقله من النقيض إلى النقيض. ثم وقعت حادثة إغراق الباخرة البريطانية لوزيتانيا المثيرة للجدل، فضلاً عن تسخير ما تسرّب من صور عن فظائع الحرب التي ارتكبها الألمان في بلجيكا. تسريبات ستكون العماد الذي تستند إليه آلة الدعاية الأميركية لتحويل رأيها العام المحايد والمسالم إلى آخر حربي النزعة.
الجهد الإعلامي للجنة كريل الأميركية الذي سُخّر لتقبّل الرأي العام الأميركي لفكرة المشاركة في الحرب العالمية الأولى، هو أحد مفاصل تحوّل الآلة الإعلاميّة الأميركيّة لتنسجم أكثر مع توجّهات مراكز القرار والنفوذ السياسي ــــ الاقتصادي، وذلك خلال مسيرة شهدت عدداً من التحوّلات والتبدّلات منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، وهو ما يسعى لرصده كتاب «كواليس الدعاية الأميركية» لمؤلّفه عبدالحليم حمود.
وإذ يبرز الكتاب، في فصوله الأولى، أنّ وسائل الإعلام في العالم الغربي قد قامت فلسفتها التأسيسية على توفير مصدر غير رسمي للمعلومات للرأي العام، يكون متحرّراً من سطوة السلطة الحاكمة وأدواتها المختلفة، فإنّ هذه الوسائل عبر مسيرتها في العقود الأخيرة، قد شهدت تقلّبات ليس أوّلها اندماجها تدريجاً في مؤسسات احتكارية معدودة. فوسائل الإعلام في عام 2002 غدت مقتصرة على 9 شركات كبرى، حصة الأسد فيها لرأس المال الأميركي.
ومن هنا تبرز إشكالية انحصار مصادر المعلومات وصناعة الخبر وتسويقه لدى فئة محدودة، ما أدّى تدريجاً إلى احتكار صناعة الرأي العام من جانب مصادر محدودة تتقاطع مصالحها غالباً، لتعمل على «تعليب» الخبر والرأي العام ذاته.
ويبيّن الكتاب أن مسيرة احتكار صناعة الرأي العام الأميركي هي نتيجة لتجارب تغيّرت خلالها قناعات مراكز النفوذ والقرار الأميركية، وذلك عبر محطّات متوالية أبرزها حرب فيتنام التي عانت خلالها هذه المراكز من «ويلات» تنوّع مصادر المعلومات وتعددها بل واستقلالية الكثير منها، ما أسهم في ضعضعة الرأي العام المؤيّد للحرب، وتالياً إلى تشكّل رأي عام منتقد له ومعارض.
وهكذا، يمكننا فهم الدروس التي استقتها مراكز القرار الأميركي في بناء سياسات إعلاميّة جديدة تبلورت بوضوح أولاً خلال حرب الخليج الأولى وتحرير الكويت. فهناك تقهقرت قيمة تقارير المراسلين الحربيين الذين حُدَّت تحرّكاتهم وقُنِّنت في مقابل التركيز على الرسوم الإيضاحيّة التفاعليّة التي حاولت أن تغيّب صور أهوال الحرب ودمارها.
هذه التجربة ستتطّور لاحقاً خلال حرب الخليج الثانية وغزو العراق، عبر إجبار المراسلين الغربيين على التورّط فيما عرف بمعايشة الوحدات العسكريّة بحجة حمايتهم، ما سيحوّلهم إلى مراسلين مدمجين في البنية العسكرية الغازية، تخضع تقاريرهم لرقابة عسكرية مشدّدة، كثيراً ما كانت تؤخّر بث التقارير لما يزيد على أربع ساعات. هذا في وقت رُفع فيه شعار مكافحة الإرهاب لا كشعار للمرحلة أو لتصنيف الدول بين محوري الخير والشر، بل كأداة ضغط كَبَحت عمل الصحافيّين حيث لا صوت يجرؤ على أن يعلو فوق صوت الحرب على الإرهاب!
وفي السياق، يقدّم الكتاب شهادات لعدد من رجال الإعلام الأميركي عن إشكالية المهنية الصحافية بعد حوادث الحادي عشر من أيلول 2001.
من جهة أخرى، يُسلّط الضوء على مفتاح آخر من مفاتيح صناعة الرأي العام الأميركي عبر ما عُرف بـ«الهندسة التاريخية» التي تتوسّل التاريخ كمرجعيّة أساسيّة للتأثير على الرأي العام، ولكن عبر آلية انتقائيّة تصاغ وفق مصالح مرحلية. هندسة تجلّت بداياتها من خلال سَوق الرأي العام نحو الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى صياغة الذرائع المبررة للإطاحة بنظام صدّام حسين.
قاتمة هي تفاصيل كواليس الدعاية الأميركية التي يقدّمها هذا الكتاب بصورتها الراهنة التي تسير بخطوات متسارعة ومنذ سنوات نحو أحادية الرأي وتعليبه، وخصوصاً إذا ما علمنا أن الدستور الأميركي فيه ما يمنح الرئيس سلطة منع وقمع كل ما يندرج تحت عنوان «المس بالأمن القومي» في وسائل الإعلام، وهو الحق الذي حاول الرئيس نيكسون وفريقه استخدامه لمنع تسرّب وقائع فضيحة «ووترغيت». هو الرأي العام نفسه الذي دُجّن في السنوات الأخيرة، ودُجّنت أدواته الإعلاميّة: ففي الماضي رفضت صحيفة «واشنطن بوست» ضغوطات الإدارة السياسيّة في شأن نشر وقائع «ووترغيت»، أمّا الحاضر فيخبرنا عن قناة CBS التي أجبرت أربعة من موظّفيها على الاستقالة بعد تقريرهم عن السجل المهين لجورج بوش الابن أيّام خدمته في الحرس الوطني. مؤسسات الإعلام الأميركي الكبرى اليوم هي في قبضة تيّار المحافظين الجُدد الذين باتوا يتّبعون منهجاً «ستالينيّاً» بامتياز عبر فرض الهيمنة بقوة السلاح من ناحية، وعبر استخدام الكذب الشامل والمنظّم من ناحية أخرى.
* كاتب لبناني


العنوان الأصلي
كواليس الدعاية الأميركية

الكاتب
عبد الحليم حمود

الناشر
دار الهادي