إسكندر منصور*‏أوّلاً: تذكر الوثيقة: «إنّنا ننشد قيام دولة مدنيّة تعتمد المواطنية مرتكزاً لها. وإلى ‏حين الارتقاء إلى هذه المرحلة، نتمسّك باحترام المواثيق الحاليّة التي ترعى نظامنا القائم على ‏الاعتراف بحقوق كل طائفة». الارتقاء إلى مرحلة الدولة المدنيّة حيث المواطن الفرد الحر هو ‏أساس العلاقة المباشرة مع الدولة من خلال المؤسّسات لا عبر الوسيط ــــ الطائفة التي تمثّل ‏كياناً مستقلاً، أصبح ضرورة وجوديّة للبنان. لقد كان خطاب «التيار الوطني ‏الحر» في بدايته أوضح وأفصح مما جاء في الوثيقة في مسألة إلغاء الطائفيّة السياسيّة، والعلمنة، ‏والنظام الانتخابي القائم على النسبيّة. فمن خلال النظام الطائفي ومؤسّساته، تتسلّل القوى الخارجيّة ‏لتكون لاعباً فاعلاً في الشؤون اللبنانيّة. ‏فإذا كانت السيادة من أهم مكوّنات فكر «التيار الوطني الحر»، وهي كذلك، يصحّ السؤال: كيف ‏تمارس السيادة في دولة طائفيّة، حيث كل طائفة تفتش عن حليف إقليمي أو دولي «لحمايتها». إنّ الدولة المدنيّة التي ينشدها «اللقاء المسيحي الوطني»، بحاجة إلى تبنٍّ فعلي لا لفظيّ، كما جاء في «الوثيقة». لقد كان اتفاق ‏الدوحة مناسبة لدفع هذا المفهوم خطوة إلى الأمام، من خلال نظام انتخابي أفضل، يجمع ما بين ‏القضاء والنسبية كخطوة أولى نحو إعلان لبنان دائرة انتخابيّة واحدة. ما جرى في الدوحة أثبت ‏أن مفهوم الدولة المدنيّة (العلمانيّة؟) مفهوم يتيم لم يتبنَّه أحد. ‏
ثانياً: لا شك في أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة وإسرائيل تعملان على التوطين «كحل» لمشكلة ‏اللاجئين الفلسطينيين. لذلك، إنّ التحذير من خطر التوطين الذي جاء في «الوثيقة» ضروري، ولكن ‏يجب أن يكون مضمونه جامعاً للّبنانيين، لا مانعاً لوحدتهم. فالشكل الذي أتت عليه الوثيقة ‏يوحي وكأنّ التوطين سلبي على المسيحيين وإيجابي على المسلمين («السنّة» خاصة). ‏
هنا أيضاً تأتي أهميّة إلغاء الطائفيّة السياسيّة، حيث إنّ إلغاءها يعطّل التوظيف الداخلي للتوطين، ‏ويصبح الموقف منه موقفاً مبدئياً من حق الفلسطينيين في العودة إلى فلسطين وإلى بيتهم، وتنفيذاً ‏لقرار الأمم المتحدة الرقم 194. وفي هذا الإطار، هناك غياب كلي في الوثيقة لمسألة حقوق ‏اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان. ‏فباسم محاربة التوطين، يغيب عن بالنا أنّ المخيّمات بيوت لأطفال ونساء وشباب وشابات ورجال ‏ومسنّين يودّون العيش بكرامة، ويساهمون في حياة لبنان الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة.
ثالثاً: تشدّد الوثيقة على العمل في سبيل «إعادة إنتاج الطبقة الوسطى التي هي أساس استقرار ‏لبنان». لا شك في أنّ التطرق في الوثيقة للمشكلات ‏الاقتصاديّة التي يمرّ فيها البلد، هو موقف سياسي بالدرجة الأولى. ‏لقد أدت الحريريّة الاقتصاديّة إلى غياب «الطبقة الوسطى» وبروز طبقتين: الطبقة الفقيرة التي ازدادت فقراً، والطبقة الغنيّة التي ازدادت غنىً، بالإضافة إلى دولة فقيرة مديونة لا سبيل لها ‏سوى «الاستدانة الدائمة وزيادة الضرائب دون زيادة الإنتاجيّة». لا نجد في الوثيقة أي ذكر ‏لباريس 3 لا سلباً ولا إيجاباً، علماً بأنّ مقرّرات هذا المؤتمر هي في صلب السياسة الاقتصاديّة ‏الحريريّة القائمة على «الاستدانة الدائمة ورفع الضرائب». وليس هناك أي ذكر للطبقة ‏العاملة، طبقة المنتجين، وأوضاعها الاقتصاديّة والنقابيّة، بعد أن ضُربت النقابات وقسّمت في عهد ‏الوصاية السوريّة.
رابعاً: حسناً فعلت الوثيقة من خلال التطرّق إلى دور المال السياسي في لبنان الذي ساهم في ‏تشويه الممارسة الديموقراطيّة الحرّة، وحوّل المواطن «من كونه صاحب حقّ إلى متسوّل سياسي». ‏لقد أكمل المال السياسي اللبناني (السعودي) ما قد بدأه المال النفطي منذ سنين في السيطرة على ‏وسائل الإعلام وشراء الكتّاب والشعراء والصحافيين والباحثين، في محاولة مدروسة لتشويه ثقافة ‏المقاومة والتغيير، وتحميلها عبء حالة الانحطاط والضعف في العالم العربي على كل الأصعدة؛ ‏أما في الشروط اللبنانيّة، فقد كان للمال السياسي مساهمة في محاولة تشويه ثقافة التفاهم والمقاومة ‏وتحميلهما مسؤوليّة غياب الدولة والعدوان الإسرائيلي على لبنان في حرب تموز 2006.‏
خامساً: رغم أنّ العماد عون وسليمان فرنجيّة قد أعلنا في مناسبات كثيرة تأييدهما للمحكمة ‏الدوليّة، لم تأتِ الوثيقة على ذكر هذه المحكمة.
سادساًً: إنّ الاهتمام بالمهاجرين والتواصل معهم ومنحهم حق الانتخاب من البنود المهمة في ‏الوثيقة. إلا أنّ العمل على «وضع خطة لاستعادة من هاجر منهم» جاء في إطار الكلام عن وقف ‏هجرة المسيحيين فقط، إذ تؤكد الوثيقة على وضع خطّة لاستعادة من هاجر من المسيحيين. لنقُلها ‏بصراحة مفرطة: من يظنّ أنه باستعادة رئيس الجمهوريّة صلاحيّة حلّ مجلس النواب، سيعيد ‏المهاجرين المسيحيين إلى لبنان، هو واهم. صحيح أن الوثيقة تكلّمت عن «وضع خطة»، ولكن لا ‏يمكن أن تكون مقاربة موضوع المهاجرين بهذا الشكل الطائفي من أجل استعادة «ملك مفقود» أو ‏إعادة توازن طائفي مختل. اللبنانيون المنتشرون في بقاع الأرض عودتهم رهن بوجود بنية تحتيّة في ‏جميع الميادين لاستيعابهم. فالعمل على بقاء اللبنانيين في وطنهم أجدى وأسهل من العمل على استعادة مَن هاجر.‏
سابعاً: من اللافت للنظر غياب أي ذكر للبطريرك ولبكركي بشكل عام في الوثيقة. فها هي بكركي صاحبة الدور السلبي الواضح تجاه عون ‏‏(وفرنجيّة)، إن كان في ما يتعلّق بانتخابات الرئاسة أو في تأليف حكومة وحدة وطنيّة خلال ‏السنتين الماضيتين، تحصد ما زرعته من محاولة تهميش ممثّلي أكثريّة المسيحيّين. لكنّ عدم ذكر ‏بكركي كمرجعيّة لا يعني أنّ الوثيقة بعيدة عن روح الطائفيّة. فالطائفيّة أوّلاً وأخيراً هي علاقة ‏سياسيّة تدعو لها الوثيقة، وليست علاقة دينيّة وروحيّة.‏
ثامناً: جاء خطاب العماد عون في «اللقاء المسيحي الوطني» ليعطي الوثيقة بعداً افتقدته في ‏نصوصها. وأعني بذلك الموقف الواضح «تجاه السياسة الإسرائيليّة ــــ الأميركيّة» التي تتجاهل ‏حق لبنان بأرضه وسيادته عليها. كما كان عون واضحاً في كلمته عن دور المقاومة في التصدّي ‏لسياسة استضعاف لبنان «لتمرير الصفقات المريبة». وفي هذا الإطار، تشدّد الوثيقة على دور الدولة القادرة ‏والعادلة في حماية أبنائها، ممّا يُسقِط كلّ مقولات الأمن الذاتي؛ كما أنها وحدها ترسي «لكل ‏اللبنانيين منظومة أمنيّة تحمي لبنان من أي اعتداء وتحفظ سيادته من كل تدخّل أجنبي». إنّ ما جاء في الوثيقة يمثل خطوطاً عريضة للاستراتيجيّة الدفاعيّة.
‏* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتّحدة الأميركيّة ‏