نزار صاغيّة *بتاريخ 14 تموز، أصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً تميّز بلهجة حادّة، وذلك على خلفيّة تعرّض صحافيين ومحامين ونواب، لم يسمّهم، له ولقضاة. بيان انتهى إلى تكليف النيابة العامة القيام بالملاحقات القضائية اللازمة وإلى دعوة القضاة إلى جمعية عموميّة بتاريخ اليوم. وإذا أغفل البيان تحديد مواقع «التعرّض»، يفهم أنه قصد بيان النائب نبيل نقولا فضلاً عمّا عرضه برنامج الفساد في تلفزيون الجديد في حلقتيه الأخيرتين.
وقد سارع وزير العدل إبراهيم نجار إلى وصف البيان بأنه «انتفاضة تهدف إلى فرض هيبة القضاء أمام المجتمع اللبناني لإعطائه الزخم والاستقلالية الكافية حتى يستعيد اللبنانيون ثقتهم بقضاتهم» وبأنه «ردّة فعل تعطي مجلس القضاء ما يجب أن يتمتع به من قوة وقدرة على فرض هيبته» (النهار، 15 تموز).
وإذا كان استياء القضاة مبرّراً إلى حدّ كبير، فإنّ البيان يولّد بالمقابل، في شكله ومضمونه بما فيه عبارات الإدانة واستشراف النيات الواردة فيه، وعلى ضوء تصريح وزير العدل، تساؤلات مشروعة يؤمل أن يوضحها اجتماع القضاة منعاً لأيّ التباس أو سوء استخدام.
فمن جهة أولى، يطرح البيان للمرة الأولى بهذا القدر من الزخم منذ 1998، إشكاليّة القضاء في الإعلام وبكلمة أخرى إشكاليّة نقد القضاء إعلاميّاً. فمثلاً على طول البيان، نلمح اعتراضات إزاء تناول شؤون القضاة بما ينعكس سلباً على العدالة ودولة القانون، من دون أي إشارة إلى أدوار الإعلام الإيجابيّة. وهو بذلك ترك المجال مفتوحاً للتأويل وسوء الاستخدام. والسؤال الذي يطرح بإلحاح تبعاً لقراءة البيان (وأنا أطرحه من باب الاستيضاح لا من باب التشكيك): هل يريد البيان التنديد بأقوال رآها المجلس افتراءً وتلفيقاً وميلاً إلى تعميم السلبيات وحسب، أم سينطلق من هذه الافتراءات ليعبّر عن استياء أشمل إزاء أي تعرض للمجلس أو للقضاء إعلاميّاً على نحو قد يؤثّر على صورته، بغضّ النظر عما إذا كان النقد صحيحاً؟ سؤال يصبح مقلقاً في ظل الحديث عن مبررات منع «الحبس الاحتياطيّ في قضايا المطبوعات» (وهو أهم مكاسب الصحافة عالمياً) ولا سيما أن وزير العدل كرر الإشارة إلى ذلك، معلناً أن بعض الصحافيين تمادى مستفيداً من هذا المنع.
فما شأن التوقيف الاحتياطي بما نحن فيه؟ وألا تعكس هذه الإشارات تفكيراً معيّناً بجواز استخدام التوقيف الاحتياطي (لولا وجود النص القانوني) كعقوبة رادعة دون انتظار المحاكمة، بمعزل عن حاجات التحقيق أو خطورة الفاعل، وتالياً خلافاً لمبدأ أن المتهم بريء حتى إثبات إدانته! وإذا تحدث البيان عن شهود الزور والتهجم مجاناً على حرمات الناس وكراماتهم والاتهام الرخيص المفتقر إلى الإثبات، فمأخذه ضدّ المحامين هو أن «بعضهم يترافع على شاشات التلفزيون في قضايا موكليهم»، ومأخذه ضدّ السياسيّين «أنهم يسمحون لأنفسهم بتناول القضاء لأغراضهم السياسية والانتخابية». وإذ أكّد أنه لا يتستّر على قضاة مرتكبين، وأن مجال الشكوى مفتوح للجميع، فإنه سارع إلى حصرها ضمن الوسائل التي يقرّها القانون بغية تقويم الاعوجاج ضمن حدود حفظ الكرامات لا التشهير.
وبالطبع، من شأن عبارات مماثلة أن تعيد إلى الأذهان، ولو من باب الحيطة، مجمل الخطاب السائد في فترة 1992-1998 تحت شعار هيبة القضاء.
وإذ تجنّب البيان استخدام تعبير «الهيبة» (بخلاف وزير العدل الذي استخدمها مرتين في تصريحه) أو حتى التمجيد بالذات وبالقضاء بقوله إن القضاة ليسوا آلهة ولا أصناماً، مؤكداً عرضاً أنّ علوّ مقام أي منهم يكون بفعل علمه وسيرته وترفّعه وضمناً ليس بفعل منصبه (وهذا أمر يسجَّل له)، فقد لمّح بالمقابل أن للقضاة خصوصية تفرض قواعد خاصة في التعامل معهم، ومفادها «التزامهم بموجب التحفّظ الذي يوجب بعدهم عن المهاترات والسيّاسات الرخيصة والترفّع عن الإسفاف الذي هبطت إليه بعض وسائل الإعلام».
والواقع أن هذه الحجة (أي الاستناد إلى موجب التحفّظ) هي الأخرى تستدعي نقاشاً واسعاً:
فعدا أنّ موجب التحفظ يشهد منذ فترة عالمياً تحويراً شاملاً بنتيجة سوء استخدامه كقيد لحرية القضاة في التعبير بما يسهل المس باستقلاليتهم دون اعتراض (وهذا ما تجلى في بنود شرعة آداب القضاة المكرسة دولياً في بنغالور الآيلة إلى تكريس حرية التعبير للقضاة واستبدال تعبير موجب التحفظ OBLIGATION DE RESERVE بالتزام الملاءمةDEVOIR DE CONVENANCE)، فإنّ الاتجاه الدولي ينحو بشكل متزايد إلى تضييق مدى هذا الالتزام صوناً لحق المجتمع في التخاطب في الشأن القضائي لا إلى تضييق حقوق المجتمع باسم هذا الالتزام.
من جهة ثانية، فإنّ البيان يطرح تساؤلاً مشروعاً بشأن دوافع الدعوة إلى جمعية عمومية وضمناً بشأن أولويات التحرك القضائيّ ودوافعه. فأسباب الدعوة إلى الجمعية تبدو مشابهة لأسباب الدعوة إلى جمعية 2006 (وهي جمعية سميت آنذاك انتفاضة القضاة) والتي تمثلت في تعرّض وزير العدل لقاضٍ على خلفية الخلاف بشأن استكمال أعضاء مجلس القضاء الأعلى.
وإذا عكس ذلك شعوراً عميقاً لدى المجلس بحاجة التفاف القضاة حوله منعاً للاستفراد وكسباً للمشروعية، فإنّه يؤشر أيضاً إلى أن تحرّك القضاة جماعياً يحصل فقط على خلفية ردة فعل، قوامها الدفاع عن النفس، على خلفية توحيد الصفوف في مواجهة هجمة خارجية، فضلاً عن أنه يعكس أحياناً أولويّات قابلة للنقاش: فهل يقبل مثلاً أن يحرك المس بكرامة مجلس القضاء بأكمله فيما أن منع مئة قاضٍ متخرج من المعهد القضائي (بمعزل عمّن سبّبه) من العمل لم يلق أي تحرك احتجاجي، لا من المجلس ولا من القضاة أنفسهم؟
يؤمل أن يترفع القضاة في جمعيتهم عن قضايا التعرض لهم أو لمجلس القضاء الأعلى، فيقاربوا الأمر لا من منطلق الهيبة أو توحيد الصفوف ضد الغير، بل من منطلق التباحث الجدي في سبل استعادة ثقة الناس بهم وباستقلاليته. فللناس أسئلة مشروعة كثيرة بشأن القضاء الذي يؤثر في حياة كل فرد منهم، وحبذا لو تجد هذه الأسئلة المكانة الأولى في قلوب القضاة وأذهانهم.
* محامٍ لبناني