ليس في جبل المقطم من لا يعرف بيت «الفاجومي». وليس في العالم العربي من لا يعرف قصيدة من قصائده عن ظهر قلب. إنّه صاحب «مصر يامّة يا بهيّة» التي حملها الشيخ إمام إلى كل وجدان. جلسة مع المحارب القديم الذي لم يقعده المرض، ولم يتعب من تحدّي الحاكم المستبدّ
محمد خير

أقترِبُ من أحمد فؤاد نجم وأسأله: بصراحة، ألا زلت عند رأيك أن مصر «هتقوم تاني»؟
يعتدل في جلسته على الأريكة العتيقة في «دار ميريت» في وسط القاهرة، ينظر إليّ بثقة: «هتقوم تاني وتالت ورابع، وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها، إبداع هذا الشعب لا ينتهي». هدف لقائنا اليوم ليس الحديث في السياسة. جئنا لألف سبب وسبب، وكل من تلك الأسباب يستدعي لقاءً خاصاً بشاعر العامية المصرية الكبير (1929) الذي لم يتوقف إلى اليوم عن الكتابة، ولا... عن النزول إلى الشارع. اعتاد كثيرون منا، في الأشهر الماضية، أن يستقبلوا على بريدهم الإلكتروني قصائد منسوبة إلى نجم، عادة ما تحمل عنوان «أحدث قصائد الفاجومي». محاولات هجينة تستعير ــــ أو تحاول استعارة ــــ أسلوبه، وتوجه نقداً شديداً مقذعاً بلغة يشوبها التقذيع، إلى رموز الحكم المصري. أما موقف الفاجومي، فيبدو أشد غرابة من الظاهرة نفسها: إنّه ببساطة غير مهتمّ بالتبرّؤ من تلك القصائد أو نفي نسبتها إليه: «إنّهم يحتمون بي. لا ضرر في ذلك. المهم أن يتجرّأوا على تلك الأصنام التي تحكمنا». وحين يتدخل محمد هاشم ناشر «ميريت» معترضاً، ويلفت إلى سوء مستوى تلك القصائد في معظم الأحيان. يهز نجم رأسه كمن سمع هذا الرأي من قبل: «صافيناز قالت لي أن تلك القصائد لا بد من أن تحتوي حداً أدنى من الشعر على الأقل، لكني أجبتها: «دعوهم يستخبوا فيّا، وماله؟». صافيناز هي صافيناز كاظم الكاتبة وزوجته السابقة وأمّ ابنته نوارة. يستطرد نجم: «من يعلم؟ ربما خرج من بين هؤلاء شاعر كبير!».
ذكر الزوجة والابنة يأخذنا إلى الحديث عن الصحة والمرض. بعد تعافيه من الجلطة التي أصيب بها العام الماضي، فرضت عليه أسرتاه ــــ السابقة والحالية ــــ طوقاً من الرعاية. لكن من يقدر على حصار الشاعر المتمرد الذي عجزت معتقلات عبد الناصر والسادات عن إخضاعه؟
«صحتي لا تشغلني ــــ يقول ــــ لو كنت أوفّر صحتي لما استطعت التعافي بهذه الصورة من جلطتين متتاليتين. يريد الأطباء أن أغيّر عاداتي وأخضع لقواعد صحية صارمة. لكن قل لي: ما الفائدة إذا كسبت سنة إضافية لأقضيها مقيّداً وجالساً كالسجين؟ لا يبدو هذا الكلام مطمئناً من رجل في التاسعة والسبعين. أخبره بمخاوفي، فينفث دخان سيجارته «غير البريئة»، ثم يحكي نكتة: «ذهب رجل للطبيب، واشتكى له مرضاً غريباً يقضي على أفراد عائلته بمجرد أن يتم الواحد منهم سن الثانية والخمسين، أي أكبر بعام واحد من العمر الحالي للرجل. فسأله الطبيب: هل تدخن؟ «كلا»، قال الرجل. هل تشرب؟ «كلا». هل تحشّش؟ «كلا». هل تطارد النساء؟ «كلا». عندها صرخ فيه الطبيب: «لماذا تريد أن تعيش إذاً، يا حيوان؟». ينتهي من الكلام وينفجر ضاحكاً.
هذا الرجل أكثر من أسطورة، وأبسط من أي مواطن في الشارع. الشاعر الذي لقّب بـ«الفاجومي» لتمرّده، أسس مع الشيخ إمام عيسى ثنائياً فريداً منذ لقائهما عام 1962. في البداية وضعا معاً أغنيات حبّ نادرة أشهرها «أنا أتوب عن حبك»، «عشق الصبايا»، «ساعة العصاري». ثم صار بيتهما المتواضع في حي الغوريّة القاهري محجة للصحافيين والمثقفين والخوارج. من هنا طلعت أغنيات شهيرة لا تحصى، تربّت عليها أجيال متلاحقة في المغرب والمشرق على السواء. بعد النكسة بدأ التحول الكبير في مشوار نجم الشعري، وأسس مع إمام أبرز تجربة في مجال الأغنية السياسية العربية. وكانت أغنيتهما «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا» أول أغنية تجرؤ على السخرية من جمال عبد الناصر. ثم انهمرت الأغنيات الرائدة «بقرة حاحا»، «مصر يامة يا بهية»... ودخل نجم وإمام المعتقل. بعد موت عبد الناصر، أفرج السادات عن الثنائي. لكن سرعان ما عادا إلى المعتقل بعد «كامب دايفيد»، وبقيا فيه حتى اغتيال السادات (1981). منتصف الثمانينيات جاءت سنوات التكريس، بعد أن دعاهما وزير الثقافة الفرنسي الاشتراكي جاك لانغ، للغناء في باريس. ثم نشبت بينهما الخلافات، ومات الشيخ الضرير في عام 1995. لكنّ نجم لم يهدأ، ولم يتوان عند خوض أشرس المعارك السياسيّة من خلال قصائده الحادة والبليغة.
«لقد عدت إلى روتيني اليومي»، يقول. «أستيقظ مبكراً جداً، أفتح قناة «الجزيرة» لمشاهدة أول نشرة صباحية، عندما تحتدم الأزمات اللبنانية أشاهد «المنار» أيضاً، لأنها تتحدث بلسان «المقاومة»، أشرف فعل في التاريخ. بعد نشرة الصباح، أنزل إلى حواري المقطم، أشتري الفول من عند «أنور»، العيش من عند «أبو أحمد»، الصحف من عند «حسن». أتمشى في مفارق الحي، أحيانًا «استجدع» وأقوم بدورة كاملة من كيلومترين، ثم أصعد السلّم حتى شقتي في الطابق الخامس... تمرين رائع، لا تطلبوا مني أكثر من ذلك! يعني هالعب كورة؟ زمان كنت بالعب كورة». يبتسم ويتابع تفاصيل صباحه. الإفطار ثم قراءة العمود الذي يكتبه يومياً في جريدة «الدستور». ثم يكتب العمود الجديد ويرسله بالفاكس...
حتى الظهيرة إذاً يبدو على درجة عالية من النشاط. بعد ذلك يذهب إلى «ميريت»، مشيراً إلى محمد هاشم: «هذا الشيطان يغويني، يجمع عنده صعاليك القاهرة. نعم صعاليك ــــ يؤكد ــــ صنّاع حياة المدينة التحتية، السرية». يحكي فجأة عن أحد أشهر صعاليك القاهرة: الشاعر عبد الحميد الديب (1898 ــــ 1943). ذات يوم أهداه أحدهم معطفاً جديداً، وحين طلب إليه أن يترك عنوانه البريدي، كتب: «عبد الحميد الديب ــــ القاهرة ــــ البالطو»، ذلك أن البالطو كان منزله الوحيد! لكن، هل عنوانك البريدي أنت هو حقاً: «أحمد فؤاد نجم، القاهرة، المقطم»؟ يومئ برأسه إيجاباً. ليس هناك في جبل المقطم من لا يعرف بيت «الفاجومي».
يتفق أحمد فؤاد نجم مع محمد هاشم على ترتيبات تحرّك في وسط البلد (أجهضته السلطات قبل أن يتم) الثامنة مساء الثلاثاء 10 يونيو، احتجاجاً على اعتداءات قتل خلالها عدد من الأقباط في الأيام الأخيرة. يحتد نجم، ما تقولش «أقباط»، قل «مصريين»! كيف أسمّيهم أقباطاً، ثم أطالب بإلغاء خانة الديانة من بطاقة الهوية؟ سنقف احتجاجاً على قتل مصريين، استبيحت دماؤهم رغم وجود مليون شرطي لا يحرسون سوى حسني مبارك.
ها قد عدنا إلى السياسة! لكن إيمانه بالأجيال الجديدة لا يقتصر على السياسة، يؤمن أنها ستنتج أجمل الآداب والفنون من جديد، «جيلكم هيكسّر الدنيا» يقول. أنتهز الفرصة وأهديه نسخة من ديواني. يأخذه ثم يشير إلى صدره: إحنا عملنا اللي علينا، وسلّمناكم شعر العامية المصرية شامخاً، قوياً كالأسد.
يشعل سيجارة جديدة، فأتمنى له دوام الصحة، وأنصرف.

يقدّم نجم اليوم أمسية مشتركة مع الشاعر تميم البرغوثي في قصر «الأونيسكو» في بيروت عند الساعة الخامسة مساءً



5 تواريخ

1929
الولادة في الشرقية ــــ دلتا مصر، بين عدد كبير من الإخوة والأخوات توفي معظمهم في سن مبكرة.
1962
اللقاء بالشيخ إمام عيسى في الغوريّة.
1967
بدء مرحلة جديدة في تاريخ الأغنية السياسيّة العربيّة مع الثنائي إمام/ نجم.
1970
الخروج من المعتقل بعد موت عبد الناصر، ثم الرجوع إليه وملازمته حتّى اغتيال السادات (1981).
2004
بعد تأسيس حركة «كفاية»، صار من أبرز رموز التحركات الشعبية التي انتعشت في مصر. وكتب ضد جمال مبارك قصيدة لاذعة بعنوان «عريس الدولة».