نظّم البرلمان الأوروبي بتاريخ 28 أيار 2008 جلسة لمناقشة برلمانية مخصصة للبنان. واستضاف لهذه المناسبة مدير ديوان الأمين العام لجامعة الدول العربية السفير هشام يوسف الذي شرح آلية اتفاق الدوحة والوزير زياد بارود الذي قدّم خلاصات هيئة تعديل القانون الانتخابي الذي رأسها الوزير فؤاد بطرس، والبروفيسور رودولف القارح الذي قدم المداخلة التي افتتحت الجلسة. انطلقت هذه المداخلة من محصّلة بحثية وُزِّعَت على النواب في الجلسة، تنشر «الأخبار» ترجمتها إلى العربية
رودولف القارح*
تمهيد: بلد معقّد ومُضعف
يعيش لبنان اليوم إحدى أدقّ مراحل وجوده المعاصر. وكان اتفاق الطائف، الموقّع عام 1990، قد سمح بالتوصّل إلى مرحلة هدوء بعد حرب أهلية طويلة أدّت دور الأرضية الخصبة والمتنفَّس بالنسبة إلى النزاعات الكبيرة الإقليمية والدولية، إلا أنّ هذا الاتفاق لم يسمح بحل المشاكل الجوهرية في المجتمع اللبناني. ولم يسبق للتفاعلات بين الاستراتيجيات الدولية الكبيرة والديناميات السياسية والسياسية الجغرافية الإقليمية والحركات الداخلية في المجتمع اللبناني أن تجلّت بهذا القدر من القوة أبداً. وقد ازدادت خطورةً مع الاستراتيجية الأميركية التي تلت احتلال العراق، ولا سيّما مشروع إعادة قولبة «الشرق الأوسط الكبير ـــــ الجديد» ذي الأشكال الهندسية المتقلّبة.
وفي الوقت عينه، لم تكن يوماً أشكال الانغلاق الجماعي حول مختلف تجسيدات التركيبات الطائفية على هذه الدرجة من العمق، لكن من دون أن تؤلف نمط التعبير الوحيد عن حقائق المجتمع اللبناني وتعقيداته. وهي تكشف النقاب خصوصاً عن انقسامات سياسية عميقة ضمن المجتمع اللبناني وعجز قادة البلاد عن إعادة ابتكار التسوية السياسية التي شكلت أساس قيام دولة لبنان. وهي تطرح، بالإضافة إلى ذلك، مشكلة صدقية النخب السياسية الحالية وصدقية نظام إعادة إنتاجها نفسها.

ديناميّات تاريخيّة ومؤسّساتيّة

إنّ التاريخ السياسي للبنان المعاصر، وتطوّر مؤسّساته منذ وصاية الاستعمار الفرنسي حتى اتّفاق الدوحة الذي وُقّع في الفترة الأخيرة، مروراً بالميثاق الوطني عام 1943 الذي مثّل أساس استقلال لبنان، واتفاق الطائف الموقّع عام 1989، هو تاريخ توازنات مؤسّساتية وسياسية غير مستقرّة تؤدي دور الرحم بالنسبة إلى أزمات وجودية متكرّرة.
وقد بُنيت هذه التوازنات غير المستقرّة على تكوّن نظام مؤسّساتي لتمثيل سياسي يُنصِّب المجموعات الطائفية المنبعثة من حركة التاريخ الإقليمي أسُساً مؤسّساتية وقضائية وتركيبية لتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية.
وُلد هذا النظام من انهيار الإمبراطورية العثمانية، ومن السياسات والأزمات الأوروبية، ومن الحربَين العالميّتَين في القرن العشرين، وما خلّفتاه من آثار بنيويّة على النظام العالمي وحركات الهيمنة في إطاره.
الدولة ذات الطابع القانوني في لبنان، التي رأت النور في مؤتمر سان ريمو (1920)، هي جمهورية برلمانية دستورية رسمياً. غير أنّ الحقيقة المؤسساتية الرسمية لا تتطابق بتاتاً مع واقع البلاد الاجتماعي. فإذا كانت فكرة الوطن تفترض إنشاء دولة ترتكز على الاعتراف بالمساواة المدنية وبالحريات العامة وممارستهما، وبالتالي على ولاء المواطنين لفكرة الوطن الأساسية، تقوم الدولة اللبنانية على توازنات بين مجموعات طائفية شريكة في ممارسة السلطة السياسية. ويتحمّل كل مواطن التبعات، المتناقضة والمتجاورة (juxtapose)، لولاء مزدوج: للمجتمع الوطني من جهة، ولجماعته الطائفية من جهة أخرى. والطوائف هي، أولاً وأساساً، مجموعات تترابط وتتألّف من شبكات هرمية من العائلات الموسّعة والعشائر والزبانية المناصرة (clientele). وهي مزوّدة بتنظيمات تعيد إنتاجها واستنساخها (نظام مدرسي، ومؤسسات طائفية وتمثيلية داخلية...). وتمثّل أبعادها الشعائرية عنصراً من عناصر تكوين الشخصية، ولكنها ليست العامل الوحيد، ولا العامل التكويني الأساسي. وتأثّرت الممارسات الاجتماعية المرتبطة بها والموروثة من الممارسات الاجتماعية التي كانت سائدة في الزمن العثماني تأثّراً عميقاً بالتثاقفات المتبادلة (acculturation reciproque). وفي الوقت عينه، إنّ انخراط «النخب»، التي تتزعّم هذه الطوائف، في اللعبة الكبيرة العسكرية والدبلوماسية والاستعمارية المشار إليها بتسمية «المسألة الشرقية» (question d,orient) منذ القرن التاسع عشر، وممارسات وَرَثَتِهم مثّلا عامل اضطراب لا يُمكن الاستهانة به.
في لبنان، يحوِّل تقسيمُ التمثيل الوطني إلى حصص نسبية طائفية النوّابَ إلى مندوبين لجماعاتهم، طوعاً أو إكراهاً. ودام هذا النظام، على الرغم من الإرادات المعلنة الداعية إلى إلغائه منذ خطوات الاستقلال الأولى (راجع البيان الوزاري الصادر عن أول حكومة للاستقلال الفعلي العام 1947). وازدادت خطورة «طائفية» الحياة العامة، فكانت سبب العديد من الأزمات التي اتخذت أشكالاً عنيفة منذ 1958.

مداخل الأزمة في لبنان ومخارجها


«طوائف» تُشغل من الداخل

لكن في الوقت عينه، تعمل على المجتمع اللبناني حركاتٌ داخلية وتحوّلات مردّها انخراطه التدريجي، العنيف والفظّ أحياناً، ولكن المتفاوت عميقاً، في نظام التبادلات العالمية.
وكان للجغرافيا البشرية المتفاوتة في ما يخص انخراط المجموعات الاجتماعية ــ الطائفية في النظام العالمي انعكاس على النموّ غير المتساوي للمناطق وللمجموعات الاجتماعية.
فلحق بالأنظمة الاقتصادية الريفية حرمان كبير نسبة إلى المناطق المدينية. وتجلت هذه التحوّلات عبر تغيّرات اجتماعية اقتصادية تركيبية: هجرة الريف التي أدخلت تحوّلات إلى قواعد الطوائف المناطقية، واختلال توازن القطاعات وتغيّر الوجهة الاقتصادية، وضعف الزراعة وتضخّم قطاع الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجيّة، وتطوّر أنظمة التعليم تحت تأثير المذاهب الإيديولوجيّة التنمويّة العالميّة والمحليّة إلخ...
لا يرافق نظام التمثيل السياسي هذه التطوّرات عبر تغيّرات مؤسّساتية، ليس هذا وحسب، بل تتحوّل الشبكات الطائفية، إضافةً إلى ذلك، إلى شبكات لتوزيع الثروات، ما يزيد من خطورة خطوط التشقّق داخل الطوائف وفي ما بينها.
وأصبحت حركة المجتمع الداخلية، ولا سيما حركة حياته السياسية، تدريجياً أسيرة التركيبات الطائفية. كما أصبحت أسيرتَها أيضاً الآليّاتُ الاجتماعية الاقتصادية التي تلجم القدرات البشرية والتركيبية.
أضِف إلى ذلك أنّ المواجهات العنيفة والمتعدّدة الأشكال التي جرت في سنوات الحرب الأهلية (1975ـــــ1989) المسمّاة «بين الطوائف» أو «داخل الطوائف» تركت نتائج نفسية وتركيبية مهمّة.

رزمة مفارقات

هكذا شهد المجتمع اللبناني ظهور سلسلة من المفارقات. أود أن أشير هنا إلى اثنتَين منها كان لهما تأثير مباشر على سير عمل النظام.
فمن جهة، ازدادت العوامل التي تهيكل عمليات بناء شخصية الهوية الفردية تعقيداً، وانطبعت بالتربية والثقافة والمهنة والمثاقفات والتأثيرات الثقافية والسلوكية المعقّدة الناجمة عن الاندراج الجامح في نظام يزداد تحوّلاً إلى نظام مُعَوْلَم تُسلَّط عليه أضواء الإعلام أكثر فأكثر.
ومن ناحية أخرى، يتفاقم انعزال الجماعات ضمن مناطق تحمل سمة طائفية متجانسة نسبياً، ويتجسّد بتميّز للهويات أحادي الأبعاد ضمن مظاهر الساحة السياسية الآنية. وتتوجّه المفردات المعبّرة عن الهوية نحو تعابير دون الوطنية: موارنة، سنّة، شيعة، دروز، إلخ، ثم تتقلص وتزداد فقراً عبر اعتماد صيغة المفرد في ألفاظ تبسيطية تختزل إيديولوجيات الجوهرية الثقافوية: «المسيحي، المسلم».
تتعلق المفارقة الأخرى بالواقع التالي: فيما يُظهر انعدام تقدّم النظام الطائفي وأزماته المتتالية المتفاقمة أنّ الحل الوحيد الممكن لتجديد البنى التمثيلية يتألف من تخطٍّ متعقّل لـ«الطائفية السياسية»، تتّصف البيئة النفسية بأنّها بيئة انطواء جماعي قوي جداً ينطبع بأكثر من قلق متعدّد المضامين. وأعني بـ«متعقّل» نظاماً يجمع تخطّي التمثيلات الطائفية عبر نظام مناسب موزون وقادر على تهدئة «المخاوف الطائفية» وطردها في آن معاً.

فرز سياسي في الأساس

ولكن في الأساس، ليس الفرز من النوع الطائفي حصرياً، على عكس ما تريد تسويقه الرواية الإعلامية المبسّطة التي تعتمدها وسائل الإعلام، لا بل إنّ خطوط التشقّق تمرّ، ولكن بطريقة غير متساوية، داخل «المساحات السياسية» الطائفية حتماً بسبب النظام بحد ذاته. فالأزمة الأخيرة التي عيشت بدراماتيكية وبحدة في خلال آخر أربعة أسابيع سبقت اتفاق الدوحة، وقد كانت كامنة منذ أكثر من ثمانية عشر شهراً، برهنت هذا الأمر، بما أنّ أقطاب كلٍّ من الأكثرية البرلمانية الحكومية والمعارضة تألفوا من ممثّلين عن فئات سياسية تنتمي إلى طوائف مختلفة، حتى ولو لم تكن النسب متساوية في بعض الحالات.
ومن جهة ثانية، وباتباع ترتيب الأفكار هذا، تكتسي إشكالية الدولة في لبنان خصوصيتها الفريدة. فالدولة، كموقع لتفوّق السياسي الذي لا يمكن حصره فقط في أجهزتها الإدارية، هي في حالة تنافس دائمة مع الأجهزة الطائفية التي تنازعها الاستخدام المطلق للسياسي. فالعوائق الحقيقية في وجه قيام دولة حديثة في لبنان هي التركيبة الطائفية السياسية. ولهذا السبب، يُحصر وجود «الدولة» في المساحة السياسية التي «تتركها شاغرةً» التجمعات الطائفية.
من وجهة نظر نظريّة صرفة، تؤلّف الطوائف، بشكل من الأشكال، «المجتمع السياسي». فمن خلال التوافق الطائفي، استطاعت الدولة كتعبير عن «المجتمع السياسي» أن تجد هوامش وجودها منذ إنشائها المعاصر. وتجسّد الحقبة التي تُسمّى «الشهابية» هذا الواقع بأوضح صورة. فلأنّ أسسها السياسية والمؤسساتية بُنيت على اتفاق محلي برعاية توافق إقليمي بين الدول الموحَّدة ضمن «حلف بغداد» (منذ ذلك الحين حتى) ومصر عبد الناصر، استطاعت المساحة السياسية للدولة الممثّلة بالرئيس التوافقي في تلك الحقبة، الجنرال فؤاد شهاب، أن تنمو وأن تجسّد (أبعد من الأحداث غير المتوقعة وآلياتها المتسلّطة أحياناً) ما لا يزال حتى الآن إحدى أهم تجارب بناء الدولة في لبنان.
وبالتالي، هو منطق النظام الطائفي ما يجبر اللعبة السياسية على التجسّد عبر بنى من هذا النوع للتعبير السياسي. وازدادت خطورة هذا المنطق الآسر بفعل آليّات أسر التمثيل السائدة ضمن الساحات السياسية التي تغذيها أنظمة العشائر والمناصرين. فهذا المنطق الطائفي الآسر يسجن النظام في ألعاب هيمنة يمكن أن يكون أصحاب الأدوار الرئيسة فيها، وبشكل متناقض، قابلين للتبديل. وتبلغ ألعاب الهيمنة هذه عتبات خطيرة عندما تنغرس وتتمفصل في استراتيجيات واستراتيجيات مضادة من المواجهة الإقليمية، كما هي الحال على الساحة الإقليمية منذ احتلال العراق.
ولكن ثمّة قاعدة داخل النظام تبلورت على امتداد سنوات الممارسة السياسية: فكل مرّة حاول فيها فريق أو مجموعة مشتركة في ميثاق الوفاق الوطني التأسيسي أن يستأثر بأجهزة الدولة من خلال أسر التمثيل و/ أو العنف، أدّت هذه المحاولات إلى إخفاقات دموية أحياناً كثيرة.
وفي المقابل، يمكن إرادة سياسية ترتكز على عقد إيجابي أن تفضي إلى نظام يؤمن الاستقرار. فلنذكر هنا مثلاً يجسّد حالة إفراط، ولكنّه ذو مغزى. في سياق الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية والأعمال العدائية الموصوفة ضد هذه الأراضي، تساكن منطقان يبدوان متناقضَين سنوات طويلة في لبنان: منطق المقاومة ومنطق الدولة. وعملا بشكل متوافق عبر إرادة سياسية مشتركة.
وعندما وجدت هذه الإرادة السياسية نفسها مفتّتة، هُدّد مجمل البناء بالانهيار. وسوف تُمتحن هذه الإرادة السياسية مجدداً ضمن إطار تطبيق اتفاق الدوحة. وقد عبّر الرئيس ميشال سليمان بوضوح، في خطاب القسم، عن إرادته العودة إلى هذا الجمع بين المنطقَين عبر تحديد استراتيجية دفاع وطنية متكاملة.

تجديد أنماط التمثيل الوطني

إنّ الانتقال نحو نظام تمثيل سياسي «غير طائفي»، أو بالأحرى نظام تمثيل يخترق الطوائف، هو أحد رهانات المستقبل القريب. يقضي الاتفاق المعقود في الدوحة باعتماد قانون 1960 الانتخابي في الانتخابات النيابية المقبلة. وكان هذا القانون يلبّي، في تلك المرحلة، الضرورات التي كانت حتمية بسبب المواجهات الأهلية. والوضع مشابه اليوم، إذ مثّلت المؤسّسة العسكرية الملجأ للخروج من الأزمة. كان هدف القانون في تلك الحقبة محاولة تجنّب الاصطفاف المناطقي لنظام التمثيل الوطني على أساس انتماءات طائفية متجانسة الطابع أشبّهُها بنوع من «التطهير الطائفي». إذا كان هذا القانون قادراً على أن يمثّل اليوم مخرجاً للأزمة، فليس من المؤكّد أن يلبّي فعلياً الرهانات الكبرى للمجتمع اللبناني، ولا سيّما تجاوز المنطق الداخلي للطائفيّة. وحده إدخال نظام مناسب (موزون) يستطيع أن يساعد على إنشاء نظام تمثيل وطني يجسّد فعلياً المجتمع اللبناني وتنوّعاته، ولا تنحصر هذه الأخيرة بتاتاً بالانتماءات الطائفية.
كما من الضروري أيضاً الإشارة إلى خطورة الوضعَين الاقتصادي والاجتماعي وتبعاتهما: تضاعف نسبة الهجرة، وهجرة الأدمغة، والتواءات تركيبية، وتفاقم التفاوتات من ناحية تنظيم المناطق، وأشكال نموّ اقتصادي مرتبط بالخارج لا يلبي حاجات التوظيف الملحة، ولا سيما بالنسبة إلى الشباب وحملة الإجازات، وإهمال القطاعات الإنتاجية، إلخ...

استمداد شرعيّات من الخارج

سلّطت الأزمة الضوء أيضاً على ما أسمّيه «استمداد الشرعيّات من الخارج»، أي إبدال قواعد الآليات والعمليات الديموقراطية والمؤسّساتية الداخلية، كما هي الحال في دولة سيّدة فعلاً، باللجوء إلى الحمايات والدعم الخارجيّين. ولا يمكن أن يؤدّي اصطفاف السياسات الوطنية حول رهانات خارجيّة إلا إلى تحويل لبنان إلى أداة لأهداف يتبيّن لاحقاً أنّها معاكسة لمصالح لبنان الحقيقية. تعمل الحياة السياسية اللبنانية وفق منطق الأواني المستطرقة. فرمزية التوازنات المحلية أو انعدامها تردّد صدى معادلاتهما الإقليمية، تعكسها وتنعكس فيها بسبب أنظمة التحالفات الحالية.
وتمثِّل عملية التفكيك التي أُطلقت مع تعديل سياسة القوى العظمى بعد اجتياح العراق والاصطفافات أو التوجهات الجديدة الاستراتيجية التي تلتها مثالاً مهمّاً على ذلك.
وقد أثبتت الأبعادُ المتعدّدة المستويات للأزمة التي هزّت لبنان (المستوى الداخلي والإقليمي والدولي) طبيعةُ الآليات التي أتاحت نجاح وساطة دولة قطر. وأشركت هذه الآلياتُ مجملَ الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين المعنيين بارتفاع مستوى المخاطر حتى بلوغها الذروة.

رهانات على شكل تساؤلات

إنّ رهانات مخرج الأزمة هذا لكبيرة جداً. فلنذكر منها اثنين على شكل تساؤلَين: كيف يُعاد بناء السلم الأهلي الذي اضطرب منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ثم تفاقم وضعه بسبب الاصطفافات العمياء حول الاستقطابات الإقليمية ضمن سياق مفكّك من التصدّع الإقليمي القائم على استراتيجيات دولية تقضي بإثارة المخاوف المتبادلة، وبتقسيمات مذهبية تمثّل الحالة العراقية مثالاً مأسوياً عنها. كيف يُعاد بناء الوحدة الوطنية بالمعنى العميق والمنهجي للتعبير؟
وبشكل أكثر عمومية، شهدت الأزمة اللبنانية الأخيرة، في امتداداتها الإقليمية، تدخّلاً دبلوماسياً ومؤسّساتياً مباشراً من فاعلَين إقليميَّين كبيرَين جديدَين هما تركيا وإيران، بالإضافة إلى جامعة الدول العربية. وفي الوقت عينه، أمام الاستقطابات المناصرة لفاعلين يبقون تقليدياً على مسافة واحدة من المتنازعين، أقله بالشكل، ظهر وسطاء جُدد يتميّزون بمرونة وطاقات دبلوماسية مميّزة. فهل ستسمح هذه الديناميات الجديدة بتجدّد متعقّل ومنطقي للنظام الإقليمي؟
وبموازاة ذلك، أدّت السياسات القائمة على النبذ والإلغاء والإبعاد في فلسطين التي تفاقمت بسبب النشاط الاستيطاني المفرط، إلى إخفاقات مثقلة بتهديدات أجّجتها الممارسة الدولية التي تزين بوزنَين وتكيل بمكيالَين. سوف تكون هذه التطورات هدّامة في العمق وسوف تبعد أكثر بعد احتمالات السلام الحقيقية. أوَليس من الضروري التذكير بركائز التسوية التاريخية التي وُضعت أسسها ضمن إطار مؤتمر مدريد عام 1991، وإعادة القانون الدولي مرجعاً لا مناص منه لكل حلٍّ للنزاعات في الشرق الأوسط، مع التشديد على الميزة غير الانتقائية لقرارات الأمم المتحدة؟
في هذ البقعة من العالم وفي حوض المتوسط، أوَلا يمكن إعادة تأهيل مفهوم الأمن المشترك والجماعي كما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة؟ وبالمناسبة، أوَلا يملك الاتحاد الأوروبي دوراً مثالياً ودوراً وسيطاً يؤديه عبر منح تعدّدية الأطراف معناها الحقيقي، وعبر التمايز عن سياسات الهيمنة، وعبر تفضيل ديناميات إشراك المجموعات الكبيرة القائمة على شواطئ المتوسّط مع الاعتراف بشخصيتها التاريخية. أخيراً ومن منظور إنساني، أوَلا يقوم فن السياسة على رفض ابتكار عدوّ أبديّ رفضاً منتظماً، ليبتدع بدلاً من ذلك تسويات أبديّة وبنّاءة؟ أوَلا يكمن هنا تحديداً السلاح الأعظم للمجتمعات المركّبة بوجه شياطين الفتن؟
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)
* أستاذ مشارك في جامعة بروكسيل الحرّة ومدير أبحاث في مركز الدراسات العربيّة ــ جامعة باريس 3، السوربون الجديدة.