Strong>راجانا حميةتركع الحاجّة أم محمّد حزوري أمام الحفرة التي من المفترض أن تحضن رفات الابن العائد بعد ثلاثين عاماً من «الغربة» في أراضي العدو الإسرائيلي. تجلس مستسلمة لصمتٍ رهيب رافقها طوال مسيرها الذي بدأ صباح أمس الباكر من أمام باحة مستشفى الرسول الأعظم، حيث كانت تقضي ساعاتها بانتظار خبرٍ فات عليه الكثير من الزمن. هذه الركعة وهذا الصمت الذي احتلّ أفقها فقط، وسط الصراخ والزغاريد، لم يكونا غريبين على المرأة التي فقدت قبل محمّد الابن شقيقاً، فهي معتادة على مواقف الموت تلك، ولكن ما يختلف هذه المرّة بعض الشيء، أنّ القبر الذي تمنّته هذه السنوات لتبكي المراهق الذي غادرها باكراً، لن يكون لها وحدها. فهنا ستبكي الحاجّة 21 شخصاً دُفنوا معاً في ستّ حفرٍ صغيرة على مقربةٍ من الطريق. وهنا، لن تعرف أمّ محمّد إلى أيّة جهةٍ تلجأ وأيّ قبرٍ تحكي له القصص عن بيت المخيّم وفلسطين، وفي الفترة الأولى قد تضيع وسط هذا الموت الصاخب، لكن من المؤكّد أنّها لن تكون حزينة، فقد حظيت على الأقلّ بإحدى الزوايا التي ستعوزها كلّ يومٍ لتبكي إليها.
اطمأنت الحاجّة إلى زاويتها، واستأذنت حاملة صمتها على أمل العودة في الصباح، وتاركة الدار الجديدة لأمّهاتٍ وشقيقات ينتظرن «إفراغ» الأحبّة من الأكياس البيضاء، علّهن يتعرّفن إلى زواياهنّ أيضاً. وغالباً ما كان التعرّف إلى المكان الجديد مصحوباً بالسؤال الذي لم يكن ثمّة من مفرٍّ منه «وين حطيتولي ابني؟ مع مين؟ وشو الرقم؟».
21 رقماً جديداً أضيف، أمس، إلى المقبرة الفلسطينيّة التي تكاد تختنق بأجسادها، وهي مهيّأة لاستقبال آخرين خلال يومين، قد تكشف عنهم فحوص الحمض النووي التي تُجرى لثمانية وعشرين جثماناً لا يزالون مجهولين، إضافة إلى مجموعة الشهيدة دلال المغربي، التي لا تزال هي أيضاً قيد الفحص.
في شاتيلا، أمس، حيث كانت المحطّة الأخيرة لهؤلاء الشهداء، كان المكان أقرب إلى فلسطين منه إلى لبنان، الأعلام والأشخاص والهتافات والقبور المتراصّة والشهداء أنفسهم وصوت الرصاص الذي يذكّرنا بتشييعات غزّة ورام الله.
كان يوماً فلسطينياً بامتياز، بدأ باكراً في باحة مدرسة شاهد ـــــ الإمام المهدي، حيث كانت المنظّمات والأحزاب تتهيّأ لتسلُّم رفات شهدائها من الهيئة الصحّية الإسلاميّة في حزب الله. هناك في الباحة، كانت النعوش تنتظر رحلتها الأخيرة، مرصوفاً بعضها فوق بعض وملفوفة بأعلام بلاد شهدائها، الذين تنوّعت جنسيّاتهم ما بين فلسطينيّة وفلسطينيّة أردنيّة وفلطسينيّة سوريّة وسوريّة ولبنانيّة وأردنيّة وتونسيّة وليبيّة ونيجيريّة وكويتيّة وعراقيّة ومغربيّة.
إذاً، رحل العائدون إلى المثوى الأخير. لكن قبل ذلك كان لا بدّ من تقديم التحيّة لهم، وقد شارك في أدائها عميد الأسرى اللبنانيين سمير القنطار ومسؤولو الفصائل الفلسطينيّة والأحزاب اللبنانيّة... تحيّة تليق بشهادة «السوريّة القوميّة» سناء محيدلي أدّاها رفاقها بلباسهم الأسود وزوبعتهم عند مدخل المدرسة قبل أن تخرج إلى مركز الحزب في الروشة. وكما سناء، كذلك الرفاق الآخرون، فجميعهم كانوا على موعدٍ مع مسيرةٍ حاشدة شهدها طريق مطار رفيق الحريري الدولي. مسيرة لم تكن للحزن، إذ حرص أهالي الشهداء والمنظّمات والأحزاب اللبنانية والفلسطينيّة على اعتبارها «الخطوة الأولى في طريق إحياء الروح الثوريّة».
بعد «شاهد» افترق الشهداء، فمنهم من أخذ طريقه إلى قراه، ومنهم من بقي بانتظار الطائرة التي تقلّه اليوم وغداً إلى بلده الأم، فيما غادر آخرون إلى شاتيلا، وهم الشهداء الـ21 الذين حوّلوا المسير إلى تظاهرةٍ مصغّرة عمّا يجري في فلسطين في كلّ يوم ولم يكن بإمكان أحد أن يخترقهم إلّا القنطار، الذي سرق عدسات الكاميرات والأنظار من الشهداء للحظاتٍ قبل أن يغادر في سيّارته السوداء بمرافقة 5 سيّاراتٍ أخرى، ليعود بعدها الهتاف من «إلك يا سمير التحيّة» إلى «إلك يا أبو عمّار القضيّة».
غادر سمير، وبقيت «الدار» لأبو عمّار الذي سيطر على جوّ طريق المطار، فعلت أعلام حركة فتح، تحوطها أعلام فلسطين وأعلام الحركات الفلسطينيّة الأخرى، وعلت معها الهتافات التي لم تكن واحدة، حيث كان بإمكانك أن تسمع في أوّل الطريق هتافاً مختلفاً عن نصفه وعن آخره. فهنا «إحنا الفتحاويّة» وهناك «لعيونك فدائيّة»، ورغم ذلك، كان لك أن تشعر بألم هؤلاء الذين أتوا من جميع المخيّمات في لبنان، حيث لم يكن بمقدورهم البقاء في بيوتهم في حضرة الشهداء، ومنهم وفاء التي اضطرّت لتغيير «برنامج العمل في المنزل لأنّه مش كل مرّة نحنا بنعيش هاللحظة».
ولأنّه «مش كلّ مرّة بصير هيك»، حرص المشيّعون الفلسطينيّون على «نبش» كل ما يرغبون به في هذه المناسبة، فكانوا في بعض الأحيان فرحين، وفي أخرى حزينين وفي ثالثة عاتبين على من هجّرهم من الأرض وفي الرابعة انتقاميّين وفدائيّين. كانوا بحاجةٍ إلى هذا المسير ليعيشوا اللحظة التي لن تتكرّر، وكانت الهتافات خير دليلٍ على ذلك، حيث انقسم الشباب والشابّات مجموعاتٍ يردّدون هتافاتٍ بعضها ارتجلوها في لحظتها والبعض الآخر تعلّموها من «القائد». وفي إحدى تلك المجموعات التي صودف أن كانت «فتحاويّة»، تكفّل شباب نادي الأقصى في «إشعال» الجو، حيث انضمّ إليهم أشخاص آخرون لم يجدوا في مجموعاتهم الحماسة نفسها. كانوا جميعاً بكوفيّاتهم يصرخون لفلسطين والشهادة تارة «بدّن يانا نعيش بذل ونحنا بدنا الحريّة، ولعيونك يا فلسطين تطوّعنا فدائيّة»، وطوراً للعرب «يا فلسطين لا تعتبي علينا حكّام العرب ضيّعوك علينا»، فيما الهتاف الغالب كان الثأر الذي يصرّ عليه أطفال وشباب لمّا ييأسوا بعد من الثورة التي «آمن بها المعلّم أبو عمّار»، «وبنموت وما بنسلّم وهيك وصّى المعلّم، وعلى الأقصى رايحين شهدا بالملايين».