لا يكاد يمرّ يوم من دون أن تخرق أصوات المفرقعات النارية سماء المناطق اللبنانية ابتهاجاً بنجاح الطلاب الثانويين والجامعيين. لكن صيف النجاح كان مختلفاً في بيوت شهداء التعبئة التربوية. إذ رحل الطلاب في تموز 2006 تاركين شهادات لن تكتمل، وحرموا أهلهم فرحة تخرّجهم
هيثم خزعل
يستعد الطلاب الناجحون لإكمال دراستهم. يحلمون بتتويج مسيرتهم الجامعية بالتخرّج والعمل، ويحلم معهم الأهل بلحظات كثيراً ما انتظروها وخطّطوا لها منذ كان أولادهم أطفالاً. لكن الوضع في منزل عائلة الشهيد حسين علي رزق كان مختلفاً. فالحلم بنيل شهادة الكيمياء الحياتية توقف في 29 تموز 2006. تزامن يوم صدور نتيجة حسين الجامعية مع عملية الوعد الصادق، ذهب الشاب ليُحضر النتيجة، هاتف أهله وأبلغهم بنجاحه في السنة الجامعية الثانية، لكنّه سلك طريقاً مختلفاً عن طريق العودة إلى المنزل. التحق الشاب برفاق السلاح واستُشهد لاحقاً في رشكنانيه في قضاء صور بالقرب من قانا.
رحل حسين وتبخر معه حلم الوالدة برؤية ابنها يرتدي ثياب التخرّج، فالصور التذكارية التي ستجمع رفاق حسين هذا العام لن تضم صورته. لكن أم حسين تؤكد أنّ ابنها لو كان حياً لكان سيتخرّج هذا الصيف لأنّه كان من المتفوّقين. وقد جمعت الوالدة شهادات حسين، حتى تلك المعلّقة على الحائط في ملف تحتفظ به في خزانتها وعلّقت مكانها صوراً للابن الشهيد، واحدة بثياب عسكرية وأخرى يحمل فيها بندقية إلى جانب شهادة تقدير حازها حسين من فرقة الإسناد الناري في المقاومة. تخفي الوالدة حسرتها على المسيرة العلمية التي لم تكتمل وتعزّي نفسها بالقول: «يستطيع أيّ كان أن يحصل على شهادة جامعية، لكنْ قليلون هم من يحظون بشرف الشهادة في سبيل الوطن». تأبى الوالدة إلّا أن تُريَك شهادات ابنها التي احتفظت بها بعناية، وتقف عند كل شهادة لتسترجع ذكريات الزيارات التي كانت تقوم بها إلى مدرسة حسين لتطمئن إلى نتائجه.
كان صيف عام 2006 حارقاً بالنسبة إلى أم الشهيد، كذلك صيف العام الماضي، لكن نكهة هذا الصيف كانت مختلفة، بعدما تحرّر الأسرى وقطف اللبنانيّون ثمار استشهاد حسين ورفاقه، وأيقنت أم حسين جدوى استشهاد ابنها.
وكما في منزل الشهيد حسين كانت فرحة والد الشهيد محمد خليل عبد الله بخروج الأسرى لا توصف. يذكر الوالد أن محمد استشهد دون أن ينال شهادته في العلوم الاجتماعية، مشيراً إلى أنّ محمد كان يتغيّب عن بعض المحاضرات في الجامعة، ما يضطر الوالد إلى الذهاب إلى الجامعة لتأمين ما يفوت ابنه من دروس.
انتسب محمد إلى معهد العلوم الاجتماعية ـــــ الفرع الأول في الجامعة اللبنانيّة في عام 2005، بعدما حاز شهادة الامتياز الفني في الإدارة والتسويق في عام 2004. وهنا تقول شقيقة الشهيد زينب، التي كانت تدرس في المعهد نفسه مع محمد، إنّ أخاها كان يتغيب في معظم الأحيان عن الحصص الدراسية متعذراً بالمرض، وكان يرجوها أن تخفي الأمر عن أهله ويطلب منها أن تزوّده بما يفوته من دروس، فتصوّر زينب الدروس من أحد زملاء محمد. وتضيف إنّ ما كان يدهشها هو نجاح أخيها من دون أن يدرس. وتضحك حين تتذكر كلمته التي لا تفارق ذهنها: «عندما يستخدم الإنسان عقله بيمشي الحال».
يقول والد الشهيد إنّ ابنه كان شغوفاً بالعلم، وكان يحلم بنيل الإجازة في العلوم الاجتماعية وأن يدرس بعدها العلوم السياسية. ويضيف إنّ محمد نشأ منذ صغره كإخوته على حب العلم بتشجيع منه، «لقد حرمتني أوضاع أهلي المادّية التحصيل العلمي، فأردت أن يعوّض محمد وإخوته ما حُرمتُه».
يفضّل أبو محمد عدم الغوص في تفاصيل الماضي وتقليب الذكريات، ففراق بِكره كان صعباً، فقد كان محمد لأبيه صديقاً أكثر منه ابناً.


بسمة الكلية

ما زالت أم حسين رزق تتابع أخبار زملاء شهيدها في الجامعة بشغف وتطمئن إلى نتائجهم الدراسيّة. تذرف الوالدة دموعها حين تذكر أنّ بعض رفاق ابنها يتخرّجون هذا الصيف. كذلك تذكر الوالدة أنّ علاقة حسين بأساتذته كانت ممتازة، وقد أطلق عليه زملاؤه لقب «بسمة الكلية». فما ميّز حسين تلك البسمة الساحرة التي لا تفارق شفتيه. ويذكر أحد رفاقه أنّه كان ودوداً مع الجميع، ولم تكن له أية عداوة مع أحد. وكانت تلك البسمة كفيلة لصاحبها بدخول قلوب كل من عرفه. وتقول أم حسين إنّ أحد الأساتذة الذين أتوا لتقديم التعازي أخبرها أنّه رغم الجديّة التي كان يتسم بها في تعاطيه مع طلابه، كان لعلاقته بحسين طابع خاص، فقد كان الأقرب إلى قلبه، وكان الوحيد المسموح له بالمزاح مع أستاذه.