تتفاوت الآراء بشأن المواقف السياسيّة لسليمان فرنجيّة. لكن لا أحد يستطيع إنكار علاقته القريبة بأبناء منطقته. علاقة تعزّزها عفويّة «البيك» الذي عرف كيف يصارع قدره. في منزله في بنشعي، كان هذا اللقاء مع الطفل الذي نجا من مجزرة، والزعيم الذي نما في أحضان جدّه
غسان سعود
من مفرق الكورة، في بلدة شكا الساحليّة، تبدأ بالتشكّل معالم صورة جديدة. تكاد تختفي العمارة العشوائيّة، وتطل منازل جميلة نُقشَت على حجارتها العتيقة «الزوبعة» التي تشي بانتماء أهل المنطقة عند سفح هذا الجبل الشمالي: إنّهم سوريون قوميون اجتماعيون. ومن الكورة صعوداً إلى زغرتا، يبدو سليمان فرنجيّة الصيّاد هو الأقرب من الناس، إذ يقدِّر أهل القرى أن يكون زعيمهم صياداً. وتصبح أخبار رحلات صيده إلى مختلف أنحاء العالم جزءاً من اهتماماتهم وأحاديثهم اليومية. والصيد، كما يؤكّد كثيرون منهم، لا يعني استعداء الطبيعة. ألم يقم «البيك» بزرع أكثر من 600 ألف شجرة بين زغرتا وإهدن؟ فضلاً عن إنشائه بحيرة بنشعي، ومتابعته المباشرة لكلّ ما يتعلّق بمحميّة إهدن.
هكذا تتداخل ملامح الشخص والمكان، ويُعزّز شعور الناس بأن «حامي زغرتا» يهتم بكل المنطقة كاهتمامه بفيلّته الخشبيّة التي هندسها بنفسه، وأشرف على تنفيذ أدق تفاصيلها. وهو أصلاً يملك مخرطة يمضي فيها وقتاً طويلاً، كما تقول مساعدته الإعلاميّة فيرا يمين التي تتحدث بشغف فرنجيّة نفسه عن رحلات صيده، قبل أن يقاطعها دخول ريما قرقفي، زوجة «البيك»، زاهيةً بفستان أبيض يضاهي ضحكتها جاذبيّة. وما هي إلا دقائق حتّى يطل «عمود النصارى» كما يسمّي الزغرتاويّون سليمانهم. فيسلِّم على ضيوفه بودٍّ كبير ويطبع على خدِّ زوجته قبلة، ثم يجلس في «زاويته».
في الثالثة والأربعين، تبدو الملامح السياسيّة لابن مجزرة إهدن مكتملة. لكن الشخصية الاستفزازيّة، رغم طلّتها البريئة، تبدو عن قرب أسيرة قلق، يرجعه بعضهم إلى تلك المجزرة التي انبثقت منها علاقة فرنجيّة بالسياسة. وهو يتجنّب الكلام عليها، حتى مع ولديه طوني وباسل، لا هرباً، يقول بصوت منخفض، بل لأن الأمر لا يتعلّق بشريط سينمائي. إذ يستحيل على من لم يعشها أن يتخيّلها. كان سليمان في الثالثة عشرة، يوم وقوع المجزرة. وحدها المصادفات شاءت أن يكون صباح الثالث عشر من حزيران/ يونيو 1978 في منزل جدّه الرئيس الراحل سليمان فرنجيّة في جونية، لا في منزل الرئاسة في إهدن حيث قتل كومندوس من «القوات اللبنانيّة» بقيادة سمير جعجع تسعة عشر زغرتاوياً، بينهم والده طوني ووالدته فيرا قرداحي (مصريّة) وشقيقته جيهان (3 سنوات). هل خفّف ذلك من وقع الجريمة عليه؟ «جريمة لولاها لما كنت أعمل اليوم في السياسة ربّما». يومذاك كان سليمان الصغير تلميذاً داخلياً في بيروت، لكون العائلة لا تمتلك منزلاً في العاصمة. وبعد الحوادث الدامية، فُرضت عليه «الإقامة الجبريّة» في زغرتا مدّة 13 عاماً. وذهبتْ أدراج الريح أحلامه بالتخصّص الجامعي في الميكانيك أو الهندسة. المراهق الشقيّ الذي عاش في كنف جدّه، كان يهرب من المدرسة، مفضّلاً عليها نقاط مراكز شباب «المردة» على خطوط التماس.
اليوم يبدو طريقه في الحياة قدراً إغريقياً... كأنّ كلّ شيء رُسِم سلفاً. هكذا وجد نفسه في وقت مبكر وريث تلك الزعامة السياسيّة التي بدأت عام 1929 ــــ يوم فرض قبلان فرنجيّة نائباً عن زغرتا ــــ ولاعباً على ساحة وطنيّة قلّما خرجت في أيّامه من دائرة الأزمة. هل يعدّ نفسه «إقطاعيّاً»؟ يترك لأهل المنطقة أن يحددوا ماهيّة زعامته، إقطاعيّة كانت أو مذهبيّة أو مناطقيّة. يفضّل أن يحكي عن محاولاته المستمرة للتمايز والخروج عن القوالب الجاهزة، مذكّراً بأن ما ورثه عن عائلته هو مدعاة كلّ فخر. «الإقطاع نهج محدّد لا يرتبط بالضرورة بعائلة أو إرث شخصي. ما أكثر السياسيين الجدد الذين يجسدون الفكر الإقطاعي في ممارساتهم!».
سليمان الحفيد التزم بما يراه الثوابت التي وضعها جدّه الرئيس الراحل، بعد أن قولبها على طريقته: الصدقيّة والهيبة والكرامة. وهو ينظر إلى لبنان بصفته سفير الشرق في العالم وليس العكس. أما حزب «المردة»، فله دور مستقبلي حتماً: «في كل حزب تؤثر المبادئ 50% في استقطاب الجمهور، والـ50% الأخرى تتعلق بالشخص». والزعيم الذي نحن في حضرته الآن في بنشعي، لا يقول ما يحبّ أن يسمعه الناس، بل يجاهر بقناعاته وآرائه كما هي. وعلى الناس أن يحددوا مواقفهم. هكذا، وهكذا فقط، كسب ثقة الرأي العام. يروي كيف كانت ثقة مؤيّديه به ضعيفة، قبيل وصوله إلى هذا الموقع. اختبروه طويلاً، قبل أن يأتمنوه على مصيرهم السياسي.
أما حياته الشخصيّة التي يتحدث عنها بحذر وانقباض، فمسألة أخرى: حياة طبيعيّة وعفويّة جداً «لا تستحق تسليط الضوء عليها لأنها كحياة كل الناس العاديين». فـ«رجل السياسة مثل الكاهن» عليه التحكّم بتصرفاته كي يكون مثالاً وقدوة. وبالتالي يحرم نفسه من أشياء كثيرة كالسهر في المربعات الليليّة مثلاً، علماً بأن البيك بطبيعته لا يحب السهرات الصاخبة. يفضّل سماع الموسيقى الكلاسيكيّة والطرب العربي. أصدقاؤه المقرّبون يختارهم بدقة، ويعيش بينهم، مكرّساً الوقت الأكبر لعائلته. يقول إنّه رومانسي جداً، تلتقي نظراته بنظرات ريما وترتسم على وجهه ابتسامة خفيفة. أجمل ما في علاقتهما الصداقة. تسمع ريما بصمت، لكنّه يختم الموضوع هنا. ينتقل بالكلام إلى العاطفة القويّة التي يكنّها لأسرته، وغالباً ما يجهل كيف يعبّر عنها. يستحضر فيرا، ابنة الثمانية أشهر التي أعطاها اسم والدته: شعوره تجاهها يختلف عن شعوره تجاه طوني وباسل «لأن العاطفة بين الأب وابنته تكون دائماً أقوى». ويضيف بهدوء أن الحياة مع ريما ومع فيرا باتت أكثر لطفاً، بعد أن عاش طويلاً في منزل كلّه رجال.
يذكّرنا سليمان فرنجيّة بأنّه لم يمارس أبداً أي «وظيفة» أخرى غير النيابة والوزارة. اليوم تسمح له ظروفه بممارسة هوايات مترفة، كالصيد والتصوير والغطس، لكنّه لا يشعر أبداً بأنه بعيد عن الناس. لم ينسَ أيام كان يأخذ مصروفه من جدّه، وكثيراً ما كان يضطر للاستدانة من أصدقائه.
ويتحوّل بالحديث إلى زميلتنا المصوّرة، فينهال عليها بالأسئلة. يستعلم عن معداتها وخبرتها. يحكي لنا عن أحدث الكاميرات. يطلق البيك العنان لحماسته وعفويّته. يقفز إلى مكتبه الخاص، عارضاً آخر الموديلات كما وصل من الولايات المتحدة. ينبش الصور التي التقطها. بسرعة تزول الحواجز، ونشعر بأن محاورنا ليس سوى ذلك الشاب الذي انتصر على قدر كاد يسرق منه مراهقته وحياته. وهو اليوم يذهب في حياته العائليّة والشخصيّة، كما في حياته السياسيّة، حتى النهاية. مع حذر أكبر ربما... فالتجربة كانت مرّة.


5 تواريخ

18 تشرين الأول 1965
الولادة في طرابلس
13 حزيران 1978
مجزرة إهدن التي أدّت إلى سقوط 32 شخصاً بينهم والده طوني ووالدته فيرا وأخته جيهان
1983
زواجه الأوّل من ماريان سركيس، له منها ولدان طوني (1987) وباسل (1992). تزوج مجدداً عام 2003 من الإعلاميّة ريما قرقفي، ورزقا نهاية العام الماضي بابنتهما فيرا
1990
قام بتوحيد «ميليشيا المردة» بعد تنحية عمه روبير فرنجية عن القيادة
1991
دخل البرلمان اللبناني للمرّة الأولى نائباً عن قضاء زغرتا. وبعدها بسنتين تسلّم أوّل حقيبة وزاريّة (الإسكان) في حكومة الرئيس رشيد الصلح