على وقع الشائعات يعيش سكان مخيم عين الحلوة. حقائبهم جاهزة للرحيل في أيّ لحظة، وقد تعلّموا من درس مخيم نهر البارد (وقبله من نكبة فلسطين)، فكانت الأوراق الثبوتية أوّل ما جهّزوه لحملها معهم ومغادرة بيوت أمضوا فيها أكثر من 40 عاماً... يزيد من معاناتهم هذه شعورهم بأنهم يقيمون في «قن كبير»، بسبب التدابير المشددة للجيش اللبناني عند كل مداخل المخيم الرسمية وغير الرسمية
مهى زراقط
لم يكن ينقص أهالي مخيم عين الحلوة إلا حادثة أمنية من مستوى قتل القيادي (السابق) في جند الشام وعصبة الأنصار شحادة جوهر (السبت الفائت)، لكي تزيد حالة الهلع والترقّب التي يعيشونها منذ أكثر من عام، تاريخ اندلاع ما يسمى «حرب البارد». الشائعات في المخيم هي الشغل الشاغل للمقيمين فيه، والشارع الرئيسي الذي كان في السابق نقطة استقطاب لمعظم أهالي منطقة صيدا، صار اليوم مهجوراً إلا من حركة رجال مضطرين للعمل (المتوقف) لتأمين مصروف اليوم، أو نسوة اضطررن للخروج من منازلهن لتأمين مستلزمات الحياة اليومية.
يكفي أن تراقب الطريقة التي تتوقف فيها سيدة أمام محل لبيع الخضار في الشارع الفوقاني، لتفهم حالة القلق التي تعيشها، وقد تركت أولادها في البيت: «آتي إلى السوق ولا أعرف إن كنت سأعود إلى البيت أو أهرب من المخيم»، لذلك باتت تفضل عدم الخروج إلا في حالة الضرورة القصوى، إذ «لا يمكن التكهن متى يقع المشكل وتصبح أي حركة بمثابة مجازفة». ولذلك أيضاً صار الهروب المتكرّر من المنزل مع كل شائعة هو الحل الأضمن لمعظم السكان، الذين يضعون ما حصل في مخيم نهر البارد نصب أعينهم. قبل ثلاثة أيام مثلاً انتشرت شائعة عن استنفار يقوم به عناصر من جند الشام للانتقام لمقتل جوهر، فغادرت الكثير من العائلات ليلاً لتعود في صباح اليوم التالي.
قبل مقتل جوهر ورفيقيه (وليد سلوم وعبد دوالي)، كنا في زيارة إلى المخيم، وبدا واضحاً أن أبناءه يتوقعون «سوءاً» كلّ لحظة. وقد لا يكون ضرورياً الاستماع إليهم للتأكد من هذا الواقع، إذ يكفي وصف الأجواء التي رافقت رحلتنا إليه لعيش جزء من معاناة الأهالي اليومية في «سجنهم» الكبير.
الازدحام الخانق عند أحد المداخل الأربعة الرئيسية، يدفع إلى البحث عن مدخل غير رسمي. ندخل إلى المخيم، المسيّج بالأسلاك، عبر معبر للأفراد، لكنه لا يخلو من وجود عناصر للجيش اللبناني. الوقت الذي نعبر خلاله لا يدفع هؤلاء إلى السؤال عن الأوراق الثبوتية، عكس ما يحصل مع حلول المساء، حيث تُقفل البوابات وتُطلب الأوراق الثبوتية.
يوصل هذا المدخل إلى منطقة البراكسات. في الزواريب الضيقة نلتقي «أبو جمال» الذي يخبرنا عنه دليلنا أن عائلته دائمة الهروب. هذا ما يؤكده وهو يدلّ إلى حقيبة جاهزة حضّرتها زوجته اللبنانية، «من إخواننا الشيعة» كما يعرّف عنها، للحالات الطارئة. التعريف بمذهب الزوجة الديني، أو السؤال عن المذهب، سينسحب على كلّ البيوت التي سنزورها من دون استثناء، في إشارة لافتة إلى الانقسام المذهبي الذي طاول الشارع الفلسطيني أيضاً، وإن لم يتخذ شكلاً عدائياً.
تروي أم جمال معاناتها مع الهروب الذي تترتب عليه أعباء كثيرة، منها المادية، بدءاً بكلفة أجرة السيارة التي تصل إلى 10 آلاف ليرة أحياناً، ولا تنتهي بالمصروف الإضافي جراء حلول أفراد العائلة ضيوفاً في بيوت آخرين. لذلك لا يتخذ قرار الهروب إلا في حالات قصوى، تختصرها أم جمال بالخوف الذي يسيطر على طفلها المريض وحالات الإغماء التي تصيبه مع كلّ إطلاق للنار.
وفاء، المقيمة في منطقة بعيدة نسبياً عن الأماكن التي تحصل فيها الاشتباكات عادة، تتبع آلية معينة في استقصاء الأخبار قبل الهروب. تقول: «عندما نسمع صوت الرصاص، ننتظر أن ينقل إلينا الخبر أحد المارة. إذا قيل لنا إن مشكلة فردية وقعت بين شخصين نبقى في البيت، لأنها ستحلّ بسرعة، لكن إذا قتل أحدهما فالأفضل المغادرة، لأنه بالتأكيد ستحصل ردة فعل». هذه القاعدة لا يمكن القياس عليها دوماً: «مرة اختلف شابان وصالحهما المعنيون، لكن أحدهما انتظر المساء لكي «يطخّ» الآخر».
الهروب ليس إلا واحداً من تداعيات الوضع الأمني في المخيم، ذلك أن حركة الأهالي اليومية تغيرت، والألعاب التي يمارسها الأطفال أيضاً. تروي منى، مدرّسة لغة إنكليزية، أن الأطفال في المدرسة، من الذكور، قسموا أنفسهم بين «فتح» و«عصبة الأنصار»، وباتوا عدائيين في تصرّفاتهم، في حين تلاحظ انطواءً بين الفتيات اللواتي كانت تقتصر حركتهن على المجيء إلى المدرسة، ليختفين مع حلول عطلة الصيف.
هي أيضاً خفّت حركتها داخل المخيم «أقوم بعملي المعتاد، لكني أحرص على العودة باكراً إلى البيت، وأتجنب المرور في عدد من الشوارع». أما الخروج من المخيم فبات مزعجاً بسبب الازدحام عند حواجز الجيش اللبناني «والتفتيش الذي نتعرّض له نحن الفتيات أيضاً». هذا الأمر يزعج شقيقها الجامعي أيضاً «رغم أن عناصر الجيش باتوا يعرفونني، لكنهم يصرّون مع كلّ مرور لي عند الحاجز على طلب أوراقي الثبوتية، ولا يتردّدون أحياناً في طلب الأوراق بطريقة غير لائقة».
هذا الواقع، الملطف نسبة لما يردده الأهالي من تفاصيل عن العنصرية والفوقية التي يقابَلون بها، يضاف إليه التراجع في الحركة الاقتصادية. فبعد أن كان إيجار المحل في السوق الرئيسية للمخيم قد وصل إلى 500 دولار، تراجعت الحركة اليوم بشكل لافت «اللبنانيون لم يعودوا يدخلون إلا في حالات الضرورة، ومن يرد شيئاً من هنا صار يتصل هاتفياً ونؤمن له طلباته إلى الخارج». علماً بأن هذا ليس بالأمر السهل في ظل التدابير الأمنية المشددة كما يقول حسام، العامل في مجال الألمنيوم، لافتاً إلى التدهور الكبير في الوضع الاقتصادي لمخيم كان يمثّل قبلة أبناء المنطقة من كبار التجار، وحتى الأهالي الذين يجدون فيه كلّ ما يرغبون به.
في ظل هذه الظروف، لا يسع الأهالي الهروب من فكرة واحدة تسيطر على الأغلبية: «نحن في أجواء تمهيدية لحرب شبيهة بالحرب على البارد»... لكن وفاء، المتفائلة، تستبعد الأمر، فكما شرح لها أحدهم: الظروف هنا مختلفة، لأن المخيم قريب من مدينة صيدا، وستنعكس الحرب عليها عكس البارد الذي كان بعيداً عن طرابلس».


الكهرباء معاناة إضافية