ورد كاسوحة*لم تكد تُطوى صفحة الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، حتى تعالت الأصوات من كل حدب وصوب مطالبة بفتح ملف الأسرى والمفقودين اللبنانيين في السجون السورية. وقبل الدخول في استعراض حيثيات هذا الملف، يجب التفريق أولا بين أمرين اثنين: الأمر الأول يتمثل في التأكيد على عدالة قضية الأسرى اللبنانيين في السجون السورية، والأولوية القصوى التي ترتديها عملية البتّ بمصيرهم. أما الأمر الثاني فيتصل بنمط المقاربة السياسية المبتذلة لهذا الملف. فقد درجت الطبقة السياسية اللبنانية المعاد إنتاجها بمعية الوصاية السورية السابقة، على استحضار ملف الأسرى وتوسّله براغماتياً كلّما اهتزت أواصر العلاقة المتينة بينها وبين راعيها الإقليمي. وما إن تصدر إشارات عن العاصمة السورية بقرب الانفتاح مجدداً على حلفائها السابقين، حتى يُطوى هذا الملف، وكأن شيئاً لم يكن.
حصل هذا الأمر مع اللجنة التي أُلّفت في عهد الرئيس السابق إميل لحود (وقد كانت لجنة حريرية بامتياز!)، وهو مرشّح للحصول مجدداً في عهد العماد الثاني ما لم يختلف نمط المقاربة الذرائعية تماما.
وفي الإطار ذاته من نزع الذرائع السياسية عن الملف، يمكن التطرق إلى موضوع الربط المجحف والخبيث الذي أقامه البعض بين تحرير الأسرى في السجون الإسرائيلية و«التحرير» المرتقب «لنظرائهم» في السجون السورية. فمن غير المعقول أن يضع البعض مشهدية التحرير في الناقورة والمطار وملعب الراية في مواجهة صور الأمهات الثكالى في خيمة الأونسكو. ومن غير الجائز استطراداً على ما قال أحد الوزراء السابقين اشتراط العودة المرتقبة لهؤلاء الأسرى والمفقودين (في سوريا) بصنع احتفالية مشابهة لما صُنع مع «نظرائهم» في سجون إسرائيل.
فسمير القنطار ورفاقه لم يذهبوا مذهبهم ذاك في ظروف غامضة وفي خضم حرب أهلية طاحنة لم توفّر أحداً، وهي حال معظم اللبنانيين الأسرى في سوريا، بل اختاروا بأنفسهم طريق الدفاع عن لبنان ضد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، حتى لو ارتدى هذا الدفاع أحياناً شكل «العودة إلى فلسطين». أضف إلى ذلك أنّه من دون ذاك التمييز بين جار وصيّ وجائر وعدو تاريخي وحاقد نكون قد دخلنا منطقة محظورة لا تعترف لا بالجغرافيا ولا بالديموغرافيا ولا بالسيرورة التاريخية المشتركة لكلا البلدين (أي سوريا ولبنان).
لكن هذا التمييز الضروري بين قضيتين عادلتين ومحقتين لا يعني في أي حال أن أولئك الذين يقبعون منذ سنوات في السجون السورية أقل شاناً أو أدنى مرتبة من سواهم، فالجميع مواطنون لبنانيون في النهاية، وما ذهاب هؤلاء إلى سجون دمشق وأولئك إلى سجون إسرائيل إلا حصيلة منطقية لذاك الانقسام التاريخي بين مفهومين ودورين للبنان. لذلك لا يجوز تحميل هؤلاء الموجودين قسراً في سوريا ما لا قدرة لهم على احتماله، وبالتالي أخذهم بجريرة ارتكابات الميليشيات والمافيات المشتركة التي استعملتهم وقوداً في حروبها الطاحنة إبان الحرب الأهلية المريرة.
والحال أن وضع ملف الأسرى اللبنانيين في السجون السورية على نار حامية لا يستقيم ما لم يُفصح عن مصير آلاف المفقودين في الحرب الأهلية (ومعظمهم فُقد في لبنان على أيدي الميليشيات المحتربة آنذاك)، وهنا يمكن الوقوع في مفارقة لافتة تتمثل في التلازم المقيم ما بين أمرين، حيث الإفراط المتعمد في تسليط الضوء على موضوع الأسرى في سوريا لا يقابل إلا بمزيد من الإغفال المنهجي والمقصود لموضوع المفقودين! وكأن إنهاء معاناة مئات العائلات
المنكوبة بتغييب أبنائها لا يمكن له أن يتمّ في عرف أمراء الحرب والإقطاع الطوائفي إلا بتأبيد حزن عائلات أخرى ما زالت تراهن على عودة مرتقبة، وإن غير واقعية، لأبنائها المفقودين.
لهذه الأسباب يجدر بكثير ممن يرفعون عقيرتهم هذه الأيام مطالبين بحل جذري لقضية الأسرى في سوريا (وهو حل مطلوب وملّح على أي حال) أن يرفقوا هذا الضغط على النظام السوري عبر قنواتهم غير المباشرة بضغط آخر على تلك الثلة الحاكمة من أمراء الحرب. ثلّة يزعم كثير من المراقبين أنها وحدها من يمتلك المعلومات عن مصير المفقودين. والفضيلة الأساسية التي يمكن نسبها إلى محاولة الضغط هذه هي أنها تتمّ عبر قنوات مباشرة حكومية ونيابية ومناطقية، بخلاف ما هو عليه الحال مع النظام السوري، وان تكن احتمالات الاستجابة من طرف هؤلاء (أمراء الحرب) للضغوط «الممارسة» عليهم في هذا الشأن (وهي لن تمارس أبداً على ما نظن) شبه معدومة، نظراً للتكوين الفاشي لهذه الأحزاب والتنظيمات. وكما هو معلوم، فإن ألف باء الفاشية السياسية والعسكرية يكمن في إسباغ المشروعية التاريخية على جرائم الماضي وارتكاباته، وإذا كان هذا الأمر متعذراً نظراً للانخراط الحالي في «العمل السياسي السلمي والديموقراطي»، فلا بأس من التنكر لهذا الماضي وإسقاطه تماماً من الذاكرة الجمعية لعموم اللبنانيين. وإذا كان لا بد من تسجيل موقف أخلاقي تجاه هؤلاء، فليكن على الشكل الآتي: لا يجوز لأيّ كان انتقاد التعتيم السوري الرسمي على ملف الأسرى ما دام ينهج على المنوال ذاته تجاه ملف المفقودين. والمفجع في هذا الخصوص أن التعتيمين المذكورين أعلاه يكملان بعضهماً بعضاً، لجهة ارتدائهما، كلّ على طريقته، شكل الرقص على القبور وعلى أحزان آلاف الأمهات الثكالى.
* كاتب سوري
الأسرى والمفقودون: رقص فوق القبور
- مقالات
- ورد كاسوحة
- الإثنين 28 تموز 2008