إبراهيم الأمينكل الكلام الإسرائيلي أو اللبناني عن خلفيات وأبعاد ونتائج عملية تبادل الأسرى بين إسرائيل وحزب الله، ستظل محصورة في البعد المباشر لها، بمعنى أن في لبنان من سيحاول تنغيص فرحة المقاومين وأهلهم وجمهورهم بهذا الإنجاز من خلال تفاهمات سبق أن علكها سياسيّو الأكثرية وكتبتها طوال عامين ونصف، فيما يسعى خصوم رئيس حكومة العدو إيهود أولمرت من السياسيين والإعلاميين إلى جردة حساب بمفعول رجعي معه، بعدما أجبروا خلال الحرب التي تلت أسر الجنديين في لبنان على بلع ألسنتهم حفاظاً على المصلحة الوطنية العليا. وهناك عدد كبير من السياسيين عندنا لم يفكروا يوماً في مناقشة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ومن خلفه الدول الكبرى وإسرائيل طبعاً، في أن يصرّ على إجراء المفاوضات من خلال الحكومة، لا مباشرة مع حزب الله، حتى إن عواصم كبرى تدعم إسرائيل كانت تسعى بكل ما أوتيت من قوة لأن تفوز هي بفرصة إدارة المفاوضات. لكنّ رفضاً إسرائيلياً كان هو المانع، كما أن واقعية الدبلوماسية العالمية تدفعها إلى التوجه مباشرة نحو العنوان الصحيح في لبنان، عدا عن أن اللبنانيين يسألون الآن، كما قبل عامين، وقبل أعوام، عن السبب الذي منع الحكومة اللبنانية وقادة الأكثرية الذين تربطهم علاقات قوية بالولايات المتحدة ودول الغرب، من إطلاق مبادرة دبلوماسية للحصول فقط على خرائط الألغام أو القنابل العنقودية التي لا تزال تفتك بشباب الجنوب وصبيته. وإذا كانت المقاومة تملك ورقة الأسيرين وتقدر من خلالها على منع أي تفاوض مباشر معها، فهل هناك من يتصور أن المقاومة لم تكن لتسمح بتفكيك قنبلة عنقودية إذا لم يتم الأمر عبرها أو من خلالها أو بموافقتها، وهي التي خسرت من بين صفوفها مقاومين أثناء قيامهم بواجبهم في تفكيك هذه القنابل وتنظيف المناطق الجنوبية منها؟
ثم، إذا رغب هؤلاء في استعادة تجارب سابقة، فعندما يتوافر الحد الأدنى من الثقة بين المقاومة والسلطة السياسية، فليس للمقاومة أي عذر في التحفّظ أو الرفض لدور مركزي تقوم به الدولة في ملفات تخص الصراع مع إسرائيل. ألم يقد الرئيس الراحل رفيق الحريري المفاوضات الشهيرة إبان عدوان عام 1996 ونجح من خلال عملية تنسيق دقيقة مع حزب الله وجهات دولية في التوصل إلى اتفاق تبادل خرج بموجبه عشرات الأسرى، وأعيدت جثث عدد كبير من الشهداء. ثم ألم يقد الرئيس إميل لحود ومعه الرئيس سليم الحص وفريقهما الدبلوماسي والعسكري والأمني المفاوضات التي دارت حول ترسيم خط الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، وقد بادر لحود والحص، من دون ضغط من جانب المقاومة، لإبداء التحفظ على كل ثغرة في الاتفاق وعلى كل خرق ارتكبه الإسرائيليون وغطته الأمم المتحدة وظل قائماً حتى الآن؟ ومن قال إن حزب الله أو قيادته رفضت دوراً للدولة في ترتيبات أكثر تعقيداً رافقت المفاوضات التي انتهت إلى التبادل الكبير في كانون الثاني 2004، وهي الترتيبات التي احتاجت الدولة فيها إلى اتصالات ميدانية وأمنية وتقنية قام بها يومها المدير العام السابق للأمن العام المعتقل جميل السيد؟
لكن، هل كان أمين الجميل وسمير جعجع وبقية الفرقة ينتظرون من المقاومة أن تسلم جو سركيس وأحمد فتفت إدارة مفاوضات التبادل؟ هل يعرف بطلا السياحة والشاي شيئاً عن المفاوضات أصلاً غير شراء عقار أو سيارة أو بذلة جديدة؟ أم كان المطلوب تسليم الملف إلى السفير محمد شطح الذي لا يفوّت مناسبة ليعبّر عن رفضه لكل منطق المقاومة، وهو المعجب بتجربة محمد دحلان وياسر عبد ربه؟ أم أن هذا الفريق كان يريد أن يترك الأمر برمّته إلى هادي حبيش ونايلة معوض، فربما اتفق الاثنان على تلقي معونة من برنامج المساعدات الأميركية لدعم أنشطة عن الديموقراطية، التي تنتهي بجولات لكبار كتبة الحرية والسيادة في أحياء بغداد والمدن العراقية المحتلة بدل الإصرار على إطلاق سمير القنطار ورفاقه؟
ثم إن «التنغيم» الذي بات مملاً أكثر من أصحابه لا ينفع في شيء، حتى مقارنة وليد جنبلاط بين مفاوضات الأسرى وما يجري في غزة، أو بين سوريا وإسرائيل أو حتى العودة إلى اتفاقية الهدنة، هي لا تعبّر عن حقيقة ما يعرفه جنبلاط من أصول إدارة ملفات بهذه الحساسية، وإذا ما تمعّن حضرته في نتائج عملية تبادل الأسرى وما ربحته المقاومة وأهلها وما خسرته إسرائيل، فقد لا يبقى عندها من الداعين إلى ترك أمر بتّ اتفاقية الهدنة لجهة مثل المقاومة، لأنه يعرف أن إسرائيل نفسها لن تقبل بمفاوضات كهذه، والمقاومة لن تنتهي من تجربة كهذه وهناك ظل لجندي إسرائيلي واحد يعبر السياج الحدودي مع لبنان، وليس فقط منع طلعات الطائرات المعادية أو تقدم الآليات أو المدمرات البحرية؟
لكن حقيقة الأمر هي أن في لبنان من هو على اقتناع بأن المقاومة تمثّل عقبة أمام مشروعه الداخلي، وهو الفريق الذي يرفض المقاومة لا لأنها باتت مصدر إزعاج للعدو، بل لكونها باتت مصدر إزعاج لعواصم عربية كبرى تصرخ ليل نهار من عجزها عن إعادة أسراها أو رفات جنودها من أيدي إسرائيل؟ وإلا فهل يمكن أحداً من هؤلاء أن يجيب عن سبب عدم قدرة القاهرة حتى اليوم على معالجة الآثار الإنسانية للحروب القاسية مع إسرائيل، وهل مضت الحكومة المصرية في مطاردة إسرائيل بعد كل الفضائح التي تصدر من إسرائيل نفسها عن خفايا حرب الأيام الستة؟ أم أن شطارة الرئيس المصري تظل محصورة في التهديد بإبقاء معبر رفح الحيوي مع غزة مقفلاً حتى إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير لدى حماس؟ هل تحمّس مبارك مرة ليطلب من أيّ مسؤول إسرائيلي يودّ زيارته أن يصطحب معه عدداً من الأسرى الفلسطينيين؟ ثم لماذا لا يسأل أصحاب الرأي الرافض للمقاومة ملك الأردن الذي تربطه أوثق العلاقات مع إسرائيل نفسها قبل الولايات المتحدة عن سبب عدم قدرته على إلزام إسرائيل بإطلاق سراح المعتقلين الأردنيين حتى الآن؟ وأكثر من ذلك، هل لكل أصحاب وجهة النظر هذه أن يفيدوا الرأي العام بسبب عجز حكومة محمود عباس وفريقه الأمني عن إطلاق النساء والأطفال والمرضى من المعتقلين، وهو الذي يستعد لاتفاق مع إسرائيل يمنحها بموجبه صك براءة عن أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية؟ وماذا سيقول غداً عندما يطلَق هؤلاء بسبب إصرار حزب الله على شمولهم الصفقة معه؟
صحيح أن إسرائيل تعرف أكثر من أي جهة في العالم البعد الدرامي لهذه الصفقة، وهي التي تدرك أن سياسة نزع الذرائع ما هي إلا انتصارات إضافية لخط المقاومة، إلا أن المشكلة في تعليقات بعض الجهات اللبنانية والعربية، تكمن في أن هؤلاء باتوا يتصرفون على أساس أن أي انتصار للمقاومة هو هزيمة لهم، وأن أي صورة تبثّها شاشات التلفزة لمواطنين عرب يهتفون بحياة حسن نصر الله ويرفعون علم المقاومة هي امتهان لهم ولكرامتهم، وأن أيّ تقدم في تعميم نموذج المقاومة اللبنانية هو تراجع لنماذجهم المستنسخة من أتعس التجارب التي عرفها الحكام العرب... وفوق كل ذلك، يسألون: لماذا لم يترك أمر المفاوضات لأنطوان أندراوس؟