إبراهيم الأمينيوم قرّر فريق 14 آذار إطاحة المحقق العدلي إلياس عيد، جرى ابتداع جهد لتضييع الوقت حتى يُسوّى الأمر دون ضجيج. هكذا قرر الفريق القانوني تولّي الادّعاء باسم عائلات ضحايا التفجير الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وظلت اللائحة بدون عائلة الحريري نفسه. وكانت الخطة تفترض أن هذه الخطوة من شأنها إتاحة المجال للهيئات القانونية لكسب المزيد من الوقت في سلسلة من الإجراءات الروتينية التي تمنع القاضي عيد من توقيع قرار إخلاء سبيل اللواء جميل السيد والعميد ريمون عازار لعدم وجود ما يبرّر استمرار توقيفهما، وعلى فرضية أن عيد كان يقول إن لديه ما برّر قرار التوقيف، وهذا التبرير هو المتعلق بشهادات زهير الصديق وهسام هسام وآخرين، بعضهم لا يزال مكتوم الاسم.
ولم تمض أيام حتى اتُّخذ القرار بتنحية عيد، وعلى نحو سيأتي يوم قريب لكشف ملابساته، وخصوصاً أن الخوف الذي دفع بالبعض إلى التورط في هذه العملية كان سبباً يدفع هذا البعض نفسه يومي التاسع والعاشر من أيار الماضي إلى البوح ببعض ما أجبره على القيام بما قام به. وسرعان ما حصلت مداخلات ثقيلة العيار مع هذا البعض لإقناعه بأن ما حصل ليس نهاية العالم، وأنه يمكنه الاحتفاظ بموقفه والصمود وأن الأيام ستظهر له صوابية خياره.
في هذه الأثناء، كان فريق الادّعاء يتّكل صراحة على لجنة التحقيق الدولية، وصار الحديث يدور عن قرب انتهاء أعمالها استعداداً لإعداد لائحة اتهامية تتيح للمحكمة الدولية الشروع في العمل ونقل الملف برمّته إلى المدّعي العام الدولي وسحب صلاحيات القضاء اللبناني. ولم يكن يخطر لفريق الادّعاء سوى كيفية إبقاء الموقوفين في جريمة اغتيال الحريري قيد الاعتقال. ووفق ما يفكرون فيه، فإن نقل الملف إلى المدعي العام الدولي يعني أنه لا يمكن أحداً في لبنان إطلاق الموقوفين، وبالتالي سينقلون إلى السجن الخاص بالمحكمة الدولية في مقرّها الأوروبي. وسيكون هؤلاء قيد الحماية الدولية وبالتالي فإن مصير توقيفهم سيكون في أيدي جهات دولية لها حساباتها السياسية وغير السياسية في لبنان والشرق الأوسط.
كل ذلك كان يسير وفق ما هو مخطط. أقصي الياس عيد عن الملف وعُيّن قاضٍ آخر لا يزال يطّلع على الملف منذ توليه المهمة، وهو ليس قادراً الآن، بحسب ما يقول، على بتّ مصير الموقوفين، فيما النائب العام التمييزي يقول إنه ليس صاحب رأي في الموضوع الذي يعود حصراً إلى المحقق العدلي صقر صقر، وإن رأيه في الملف معروف وسبق له أن قدّمه إلى القاضي عيد وفحواه ضرورة إبقاء المعتقلين في سجنهم. وفي المداولات غير الرسمية طُلب إلى فريق الدفاع الحصول على توصية جديدة من لجنة التحقيق الدولية تبطل مفعول التوصية التي سبق أن أصدرها الرئيس الأول للجنة التحقيق ديتليف ميليس والتي استند إليها لتوقيف الضباط الأربعة وسائر الموقوفين، علماً بأن سيرج براميرتس اعتبر أن إصدار التوصية مخالفة قانونية ورفض إعطاء توصية مقابلة، لكنه قال في كتب عدة موجهة إلى الموقوفين أو إلى وكلائهم إن اللجنة غير ذات صلاحية في أمر التوقيف والإفراج، وإنها قدّمت كلّ ما لديها إلى السلطات القضائية اللبنانية لبتّ الأمر، فيما يعتمد الرئيس الحالي للجنة القاضي الكندي بلمار استراتيجيا الابتعاد عن التواصل، فهو لا يقابل فريق التحقيق اللبناني بالطريقة أو الوتيرة التي كان يعمل بها من سبقه، بل إنه انقطع لفترة طويلة عن الاجتماع بالقاضيين ميرزا وصقر، وسافر مرات كثيرة إلى الخارج دون إبلاغهما ولو من باب العلم والخبر. كما أنه يمتنع عن مقابلة وكلاء الدفاع ويكتفي بتكليف أحد أبرز مساعديه القيام بالمهمة دون الإجابة عن الأسئلة المطروحة. لكن بلمار أبلغ الجهات الدولية المسؤولة عنه في الأمم المتحدة أنه يحتاج إلى وقت إضافي، وطلب مهلة حتى آخر هذه السنة، ومن غير المستبعد أن يطلب مهلة إضافية، وخاصة أن جميع المتابعين يشيرون إلى أن الأمور لم تحقق تقدماً يُذكر مقارنة بما جرى تحقيقه في الأشهر التسعة الأولى من عمل اللجنة، وهو أمر غير دقيق، لكن هؤلاء يقصدون أن لجنة التحقيق لم تتمكن حتى الآن من الوصول إلى قاعدة بيانات وأدلة تتيح لها التقدم بلائحة اتهامية.
غير أن التطور الذي حصل خلال الشهرين الفائتين وأعاد القلق إلى فريق الادّعاء، يتمثل في التطورات السياسية والأمنية التي حصلت في البلاد وفي وصول قائد الجيش العماد ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية. في الجانب الأول، يخشى فريق الادعاء السياسي أن يكون استثمار ملف التحقيق ودماء الحريري ورفاقه قد أصبح متعذّراً في السياسة الداخلية، وأن الجبهة التي قامت داخلياً وإقليمياً ودولياً آيلة إلى التفكك بأسرع مما كان يظن حتى خصوم هذه الجبهة، وبالتالي فإن تحول اعتقال الموقوفين إلى قضية عامة بات أمراً واقعاً. أما من جانب الرئيس سليمان، وفي معزل عما يروّجه فريق الادعاء السياسي من أنه تقدم بتعهد للنائب سعد الحريري وللمملكة العربية السعودية وللولايات المتحدة بأنه لن يضغط في اتجاه حل مشكلة الموقوفين قبل الانتخابات النيابية المقبلة، فإن رئيس الجمهورية هو من القلائل المطّلعين على تفاصيل الملف قبل وصوله إلى بعبدا وبعده، وقد عقد اجتماعات أتاحت له سماع كلام مباشر عن عدم وجود أدلة تبرر استمرار توقيف المعتقلين. ولكن سليمان ليس من النوع الذي يبادر إلى حركة خاصة، ولو أنه قال في أكثر من مجلس خاص إنه كرئيس للجمهورية لا يقبل بأن يكون الظلم هو المتحكم في مصائر الناس.
وعليه، فإن فريق الادعاء السياسي وجد أنه مضطر الآن إلى استخدام آخر أوراقه، وهي تولّي الحريري الادعاء شخصياً لكي يقول لفريق التحقيق اللبناني إنه مستعد لتوفير التغطية السياسية وما يفترضه أماناً سياسياً. ولكي يجعل الرئيس سليمان مرتبكاً حيال أيّ تحرّك يمكن أن يتعاظم من قبل رافضي اعتقال الموقوفين، سواء داخل مجلس الوزراء أو خارجه، وللإيحاء بأن فريق الادّعاء يمكنه إدارة الملف كما يريد. وثمة من أقنع الحريري من المحيطين به بأن ادّعاءه الشخصي معطوفاً على الصراخ هنا وهناك سوف يثير الذعر في نفوس الآخرين... مسكين صاحب هذا الاقتراح.