هو «حلم العودة» يوقظ صباح الناقورة. تسليم وتسلّم. صندوق خشبي يحمل بعضاً من «أشلاء الغزاة»، في مقابل أسير عائد مرفوع الرأس في عرس شعبي امتد من الناقورة إلى البازورية. عودة تفتح الباب واسعاً أمام من بات ليلته على حلم التحرير القريب
الناقورة ـ آمال خليل

الصباح الباكر في الناقورة عند مثلث قرى الشعب ـ مقر اليونيفيل ـ الحدود الفلسطينية: يتقاطر الناس والرايات الصفراء إلى ملعب البلدة الذي جهّز ليصبح منصة يجلس عليها ذوو نسيم نسر وعائلات الأسرى ومسؤول منطقة الجنوب في حزب الله الشيخ نبيل قاووق، وعدد من الفعّاليّات، وعلى رأسهم عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب حسن فضل الله، أمين سر حركة فتح في لبنان اللواء سلطان أبو العينين، والمسؤول في حركة حماس علي بركة، والنائب السابق ناصر قنديل، إضافةً إلى ممثلين عن القوى العسكرية والأمنية. الجميع يستعد لملاقاة العائد بعد 16 عاماً، من الأرض المحتلة التي قضى فيها ست سنوات في المعتقل الإسرائيلي. كما يصبح الملعب جمهوراً استقبل وصفق وحيّا وهتف لحياة المقاومة الإسلامية والسيد حسن نصر الله.
الساعة التاسعة صباحاً: يخرج الأسير نسيم نسر من مركز روش هانيكرا بعدما خرج صباحاً من زنزانة العزل في سجن هشارون في فلسطين المحتلة إلى الحرية اللبنانية.
الساعة العاشرة وعشرون دقيقة صباحاً: يتوجّه وفد من بعثة الصليب الأحمر الدولي في موكب يضم أربع سيارات باتجاه نقطة التبادل، كان قد سبقهم إليها مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا، ومدير جهاز مخابرات الجيش في الجنوب العميد عباس إبراهيم، ومسؤول الشؤون السياسية في اليونيفيل ميلوش شتروغر.
الساعة الثانية عشرة: بعد أن يجري عناصر من الصليب الأحمر الدولي فحوصاً طبية سريعة له في نقطة الأمم المتحدة عند رأس الناقورة، تطأ قدما نسيم الأرض اللبنانية، بعدما نزل من سيارة للصليب الأحمر الدولي أقلته من الأرض المحتلة إلى المحرّرة، فأحنى هامته وقبّلها. وفيما كان يصافح مستقبليه، حمل عنصران من حزب الله صندوقاً خشبياً من سيارة ووضعاه على الأرض أمام وفيق صفا، الذي قبل أن يتمادى الحاضرون في ظنّهم عن «سبب استعمال الخشبة كي يقف عليها نسيم ويصرّح للإعلام على سبيل المثال»، قطع بسيف حاد انتباه الجميع بتحويل الإفراج عن نسر الذي تدّعيه إسرائيل عادياً بعد قضاء محكوميته التي انتهت فعلياً في 27 نيسان الفائت، إلى المرحلة الأولى من صفقة التبادل الكبرى بين الحزب وإسرائيل، وقال مفاجئاً العالم: «نشكر الصليب الأحمر الدولي واليونيفيل والدولة اللبنانية. وهذا الصندوق يحتوي على بعض أشلاء لجنود العدو تركها خلال حرب تموز في أرض المعركة، نسلّمها إلى الصليب الأحمر الدولي». لكنه امتنع عن الإدلاء بتفاصيل أخرى حفاظاً على سرية المفاوضات. أمّا نسر، فقد حلّق بكلماته الأولى في الحرية شاكراً السيد نصر الله ومحيّياً «الأسرى وكل مواطن شريف في لبنان».
ورفضت سمر القاضي المسؤولة الإعلامية في لجنة الصليب الأحمر الدولي في حديث لـ«الأخبار» أن تفصح عن توقيت إعلام الحزب اللجنة بتسليم الأشلاء، أو عن الكشف عليها عند معبر الناقورة بعد تسلّمها من حزب الله، مكتفيةً بالقول إن مهمة اللجنة «تنحصر في تسهيل عملية التبادل بين الطرفين من دون أن تكون طرفاً في المفاوضات».
وبينما انصرف العميد إبراهيم وشتروغر ووفيق صفا إلى اجتماع جانبي قبل أن ينصرف الأخير إلى التنسيق مع ممثلة الصليب الأحمر الدولي بشأن تسليم الأشلاء إلى الجانب الإسرائيلي، أقلّ عناصر حزب الله نسر وسط موكب أمني إلى مكان الاحتفال، حيث أطلقت فرقة الأندلس الفلسطينية للاستعراض الفولكلوري العنان للدربكة والطبل والرقص، قبل أن تستعيد فرقتا الولاية والفجر نصاب الاحتفال الأصفر.
الشيخ قاووق و«ثلة من المجاهدين بالزي العسكري» استقبلوا نسر عند المنصة، واصطحبوه على السجاد الأحمر ليصافح الشخصيات الحاضرة، ثم أمّه فالنتينا صايغ وبقية أفراد العائلة، قبل أن يلقي قاووق كلمة يخاطب فيها الجنوبيين وشعب فلسطين وأحرار العالم قائلاً «ها هو نسيم المقاومة يطلق إلى شمس الحرية، ونحن نقيم العرس بعودته ونتطلّع إلى المستقبل القريب جداً بعودة أسرانا، حيث سيكون هناك انتصار جديد للمقاومة وللبنان والعرب بعودة أبطالهم، وعلى رأسهم البطل سمير القنطار»، مؤكداً أنه «ليس أمام إسرائيل إلا الانهزام، وليس أمام لبنان إلا زمن الانتصارات. فهذا عهد المقاومة ووعدها بالرغم من كل المشاكل في الداخل والانقسامات الداخلية»، مشدّداً على أن الحزب «لم ينسَ قضية الأسرى، ولم تُشغل المقاومة عن أولوية تحريرهم، لأنها الأمانة الوطنية الكبرى والمسؤولية الأخلاقية والإنسانية الأولى في لبنان»، معتبراً «أن الطريق الأضمن والأوحد لتحرير الأسرى والدفاع عن لبنان هو طريق المقاومة، وكل يوم يتأكد من جديد نجاح استراتيجية المقاومة في التحرير والانتصار».
أما المحرر نسر، فقد تناسى الكلمة المكتوبة التي أعطيت له ليلقيها أمام الجمهور و«ارتجل» قائلاً: «مبروك للبنان ومبروك للسيد نصر الله وقريباً سنشهد عودة جميع الأسرى إلى أهلهم».
الساعة الواحدة ظهراً: عاد نسر بموكب أمني إلى بلدته البازورية التي خرج منها أو أُخرج في عام 1992 «مكرهاً»، وتوجّه مباشرةً إلى جبّانة البلدة، حيث يرقد والده موسى الذي توفي خلال فترة اعتقاله، قبل أن ينتقل إلى منزل أسرته الذي حوصرت أبوابه «بالأمنيّات» التي فُرضت على الناس والصحافيين وعليه هو المحرر للتوّ أوّلاً.
يقف محاطاً بالكثيرين، لكنه يعرف أو يذكر ملامح القليلين منهم. كان على معظم من تمكّن من التسلل إليه في زحمة البيت الصغير المتواضع أن يعرّفه على نفسه، وخصوصاً أولاد إخوته الذين ولد معظمهم في غيابه.
وفي حديث خاص بـ«الأخبار» بدّد نسر كل المخاوف التي سرت عن إمكان استجوابه من جانب القضاء اللبناني لأنه هاجر إلى فلسطين المحتلة منذ 18 عاماً قبل أن يُعتقل بسبب تعامله مع حزب الله لأنه «ابن المقاومة». علماً بأن اتصالات مكثّفة جرت مع الأجهزة الأمنية الرسمية لإبعاد نسر عن أي ملاحقة قضائية، حتى لو كانت استجواباً شكلياً، وخصوصاً بعدما آل إليه وضع نسر الذي ثبّتت إسرائيلياً بحقه بأنه يتعاون مع حزب الله، وكان يخطّط لخطف ابن خالته ألبير (إبراهيم) حكيم ابن أخ أحد مؤسسي الحركة الصهيونية إلياهو بن حكيم، العقيد في احتياط الجيش الإسرائيلي واستدراجه إلى لبنان مثل ألحنان تننباوم، ولا تزال الدعوى القضائية التي رفعتها خالته ضده بتهمة محاولة اختطاف ابنها قائمة. أما بالنسبة إلى تواصله مع أولاده الثلاثة، فقد أعلن نسر أنه خلال وداعه لهم قبل ثلاثة أيام في سجنه اتفق مع طليقته على «أن يلتقيا مع الأولاد في بلد أوروبي دورياً»، لكنه لم يستبعد ممارسة السلطات الإسرائيلية ضغطاً، ضدها ومنعها من السفر بالأولاد للقائه.