لبازورية ـ آمال خليليصعب على من ترك بيت أسرة نسيم نسر أول أمس في البازورية أن يهتدي إليه أمس في يوم «شمّ النسيم» الأول. أين حلقات الدبكة التي عقدت أمام الباحة حتى سدّ الراقصون منافذ الحي دخولاً وخروجاً. وأين الإجراءات الأمنية المشددة لعناصر حزب الله على الداخل والخارج إلى البيت وعلى نسيم وكل من يقترب منه أو يتحدث إليه؟ لم يبق منها سوى إشراف عن بعد وتنسيق مستمر بين إخوته والمسؤولين المحليين في البلدة. وأين عشرات وسائل الإعلام والصحافيين الذين طاردوا النسر المحرر المنهك حتى إلى أضيق الزوايا؟ انسحاب تكتيكي لأصحاب أمس من أوله إلى آخره، سمح بغياب أشياء كثيرة وظهور أخرى، أولها يافطة كبيرة لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان نسيم أحد عناصره قبل تركه لبنان، رُفعت عند مدخل البيت إلى جانب صور السيد نصر الله وأعلام حزب الله، تحمل صورته وتحيي عودته.
إنه منتصف الظهر والبيت لا يزال يرتاح من مئات الأقدام التي جثت طويلاً على صدره الصغير المتواضع. أهل البيت غير مستائين على الإطلاق من تأخّر المهنئين بسلامة العائد؛ فلحظات الوقت الضائع هذا لصالحهم يغتنمونه لاستراق قبلة أو حضن أو حديث قصير معه، وخصوصاً أن ليلهم كان طويلاً جداً امتد حتى الفجر، لأنهم حشروا أجسادهم جميعاً على السرير الجديد الذي اشتروه لنسيم في الغرفة التي أفرغوها له. أكثر من عشرة أشخاص تبادلوا النوم في حضن الابن والأخ والخال والعم، إلى أن طلع الفجر وانصاعوا إلى نوم عميق يخمد نار التعب التي تستعر في أجسادهم وقلوبهم منذ أسبوع حينما أعلن عن موعد إطلاقه. أما نسيم فقد تسلل منهم ومن النوم وخرج إلى الحديقة ليفتتح صباحه الأول بين الأشجار، وليرى وجه الفجر للمرة الأولى منذ ست سنوات صافياً بلا قضبان.
الفوج الأول كان أشخاصاً من البلدة جاؤوا ليلقوا التحية على العائد ويذكّروه بهم بعد أن تغيّرت الوجوه وتبدّلت الأحوال. يتحدثون إليه ويطمئنون عن حال البطل الذي ينصت أكثر مما يجيب عن الأسئلة التي تنهال من كل حدب وصوب، ويهرب منها إلى شرود طويل لا يدرك أسراره أشخاص كثر سواه، لا سيما أهله. وأبرز هذه الأسئلة سبب ذهابه إلى فلسطين المحتلة، والسؤال عن زوجته الأولى وابنه الذي يرفض ذكر اسميهما حتى من أمه. فهذا العائد المحمّل ليس فقط بأسرار سبب اعتقاله، بل بأحزان كبيرة إلى معضلة ابتعاده عن ابنتيه، لعلّ حضن الوطن يدعمه بتخفيفها.
الزائر التالي كان الأسير المحرر مصطفى الديراني الذي حمل إليه الهدية الثانية بعد حريته، وهي عبارة عن نسخة من القرآن الكريم. ومساءً تلقى اتصالاً من وزير الإعلام غازي العريضي يهنئه بالحرية، كاسراً التجاهل الرسمي لعودته، الذي لا يعني له الكثير أمام الحفاوة التي تلقّاها من المقاومة.
لا يريد نسيم أن يشغل فضاءه بالتفكير بالمستقبل الآتي: عمله ووضعه العائلي واستقراره، وخصوصاً أن لا حكومة يعتمد عليها لاحتضانه معنوياً ومادياً واجتماعياً، مثل جميع الذين سبقوه إلى الحرية. لذا فإنه يمحو الغد من روزنامته كما كان يمحو الأمس من عمره خلال الاعتقال، ريثما يشبع من هواء الحرية.
إلى الحرية در
حول البازورية تنتظر بلدات كثيرة، وصولاً إلى مدينة صور، دورها في تلقّف الحرية التي استحقتها جارتهم. عشرة شهداء وأسيران من مقاتلي حزب الله يرسمون طريقهم إلى الحرية قريباً. يشعلون القنديل الأصفر وينتظرون إشارة العودة إلى الوطن. اثنا عشر اسماً تتداولها وسائل الإعلام المحلية والإسرائيلية، وتدرجها في قائمة العودة بالتبادل. ولكن اسم المفقود محمد فران الذي حضر بين صور الأسرى في مهرجان استقبال نسر في الناقورة، وأهله بين الناس، يغيب عن قائمتي الأسرى والشهداء على السواء. غياب بدأ ينهش قلقاً ذوي الصياد الصغير حتى كادوا يطلبون ابتعاد موعد التبادل القريب كي لا يصطدموا بالحقيقة المرعبة بأن «البحر والعدو ابتلعا ابنهم، فلم يبقَ منه شيء نستعيده».