إبراهيم الأمينتصرّف «المستقبل» منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري على أن طرابلس تعدّ قلعته الحصينة. لا أحد يقدر على منافسته في زعامة السنّة هناك، وليس بمقدور الآخرين من الذين ينوون خوض الانتخابات النيابية الهروب من رضاه في كل الأقضية المختلطة. وتباهي أركان هذا التيار بأن نفوذهم «الأسطوري» هو الذي أتاح للنائب سعد الحريري إقناع أهل الشمال بانتخاب 4 نواب من القوات اللبنانية التي أدانت المحكمة قائدها سمير جعجع باغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي.
ثم هدد تيار المستقبل خصومه في بقية المناطق بأن لديه جيشاً من المناصرين الذي يستعدون للقتال تحت لواء الحريري في أي مكان من لبنان، قبل أن يترجم الحريري نفوذه في انتخابات عام 2005 من جهة، وفي الحضور الكثيف لجمهوره الشمالي في الاحتفالات السنوية التي تقام في ذكرى اغتيال الرئيس الحريري. واستمر الوضع على ما هو عليه، حتى شباط الفائت، حين تبلّغ النائب الحريري من قيادات من تيار المستقبل من أقضية شمالية عدة أن التعبئة القائمة لجذب الجمهور إلى احتفال 14 شباط تتطلب تدخله المباشر، وأن يقوم هو بزيارة إلى الشمال وعقد لقاءات مباشرة مع فاعليات المناصرين وكوادرهم وجمهورهم لحثّهم على المشاركة، وهو ما اضطره إلى تمضية يومين هناك سمع خلالها الكثير من الهتافات التي شاهدها اللبنانيون من على شاشات التلفزيون، لكنه سمع أيضاً الكثير من الشكاوى التي فرضت عليه مراجعة، لكنّه وعد بإنجاز الأمور في وقت لاحق، وقد أجرى سلسلة من التغييرات قضى بعضها بإبعاد قياديين عن مناصب تنفيذية، بما في ذلك نواب وقيادات بارزة، عدا عن وضعه برنامج دعم ومساعدات مباشرة من خلال مؤسسات التيار أو من خلال الحكومة.
كان مقرّبون من الحريري يصرّون طوال المدة المنصرمة على أنه لا وجود لمشكلة جدّية في الشمال، وأن من نجح في تجيير أكثر من 55 في المئة من أصوات السنّة في الانتخابات الماضية، وجذب حلفاء من أنواع مختلفة، يقدر على تكرار الأمر بقليل من الجهد. وظلّت الأمور على هذا النحو من التقلّب حتى حصلت الحوادث الأخيرة، حيث تبيّن أن هناك مشكلة كبيرة برزت بداية في عدم نجاح المستقبل في تنظيم تظاهرة كبيرة كانت مقررة في طرابلس «لنصرة بيروت وأهلها».
حتى الانفعالات التي ظهرت في كثير من الأحيان، كانت عبارة عن «زعرنات» قام بها مناصرون للحريري في الشمال، تُرجمت باعتداءات على مراكز حزبية تعود لقوى من المعارضة، وإحراق منازل تخص قيادات المعارضة، وهي الصور التي عرضتها قناة «العربية» في وقت لاحق وقالت إنها تعكس اعتداءات قوى المعارضة في بيروت. كما لجأ أنصار المستقبل في عكار إلى تلك المجزرة الرهيبة بحق القوميين.
لكن هل صورة طرابلس والشمال اليوم هي كما كانت عليه قبل عام أو قبل عامين ونصف؟ بالتأكيد لا.
لكن بالطبع لا يزال تيار المستقبل القوة الأكثر رجحاناً بين القوى السياسية في عاصمة الشمال، ولكن استطلاعاً أجري مرتين قبل الحوادث الأخيرة بأسبوع وبعدها بعشرة أيام، أظهر تراجع القوة التجييرية للمستقبل بأكثر من 17 نقطة في طرابلس وحدها، وأظهر تقدم آخرين من القيادات السنّية، ولا سيما الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي، إلى جانب الإسلاميين، ومنهم الفريق الذي تمثّله جبهة العمل الإسلامي المعارضة.
لكن الصورة القائمة الآن في الشمال لا تقول بأن من ابتعد عن تيار الحريري فعل ذلك بعد مراجعة شاملة، بمعنى أن الموجة المذهبية القائمة في الشمال اشتدت، وخرجت مجموعات سلفية كانت موالية للحريري تنتقده لأن «تياره استظل بالعلمانية بدل التديّن، ولأن وسائل إعلامه تهتم بأخبار الراقصات والفنانات ولا تبث ساعة واحدة لبرامج توعية دينية وإسلامية، ولأن قيادات المستقبل في الشمال أرادت تدبير أمورها وتخلّت عن ناسها، ولأن الحريري انقطع عن التواصل مع الفاعليات التي تقدر على التواصل الأقوى مع الجمهور على الأرض».
وفي المقابل خرجت مجموعات أخرى مؤيّدة للحريري وهي أقرب إلى الطبقة الوسطى تقول إن «الاقتراب من الرئيس ميقاتي لا يقلّل من الانتماء إلى الطائفة السنّية، لكنه يبقي خيوط التواصل مع الآخرين قائمة، وإن الحريري اختار التعبئة بواسطة مجموعات سلفية تريد إعادة طرابلس إلى تجربة قاسية عاشتها في الثمانينيات، وإن الحريري أصرّ على تمثيله من خلال قيادات تسعى إلى مواجهة العائلات التاريخية في المدينة، وهي قيادات تنقصها التجربة، وتتعامل بفوقية مع الجمهور، وإن الحريري لم ينجح في تعبئة أبناء بيروت وصيدا فقرر استخدام شباب الشمال حصراً في مواجهة حزب الله والمعارضة».
ولكن الانتقادات هذه التي لم تعد محصورة في الغرف المغلقة، لم تفتح الباب أمام تغيير شامل، لكنها دلّت على أمور كثيرة أبرزها:
أوّلاً: أنه لم يعد بمقدور الحريري الحديث عن طرابلس كقلعة حصينة لتياره، وهو لن يكون بمقدوره حصد المقاعد النيابية الكاملة في الدورة المقبلة. وحتى ضمانه لمقاعده يحتاج منه إلى تحالفات واضحة مع واحدة من جهتين، إما الرئيس ميقاتي وإما الوزير الصفدي، لكنه بالتأكيد لن يكون قادراً على خوض معركة سهلة إذا اتكل على النائب مصباح الأحدب الذي أشار الاستطلاعان إلى أنه لا يمثّل أكثر من 1.2 في المئة من أصوات المدينة.
ثانياً: أن خصوم الحريري في طرابلس باتوا يملكون كل أدوات المعركة. منهم من هو في قلب 14 آذار، ويقدر على التحدث بلغة شبيهة بتلك التي تغصّ بها بيانات هذه الفرقة. ولدى خصومه من يملك الخطاب الديني، ولدى خصومه المال الوفير الذي يضاهي حتى إمكانات الحريري في عملية الإنفاق التي تأخذ أشكال المساعدات المباشرة. كما لدى خصومه الهوامش الإضافية من الحركة بعدما تعرّضت هيبة التيار وقيادته لهزة كبرى.
ثالثاً: أن بمقدور خصوم الحريري، إن ثبّتوا تحالفاً يضم ميقاتي والصفدي وتيار الرئيس عمر كرامي والإسلاميين، أن يجعلوا الحريري أمام خطر الخروج من المعركة من دون أي مقعد، ولا سيما أن نفوذ هؤلاء في تزايد، وهو نفوذ يتجاوز الوضع السنّي، حيث له أثره بين المسيحيين وبين العلويين أيضاً.
امتحان الحريري في طرابلس لم يعد سهل التجاوز!