غباوة أمنيّة وسياسيّة لبنانيّة واندفاع إقليمي ودولي يرشّحان البلاد ملعباً لتجربة جهاديّةغسان سعود

مرّة جديدة يتشارك السياسيّون والأمنيّون في إساءة تفسير التحركات السلفيّة الجهاديّة، فيُغلق باب البحث في مجزرة حلبا عند حدود البيانات المقتضبة، وتُغطّى معالم الرسالتين المتفجّرتين المرسلتين، دون توقيع، إلى الجيش (أو إلى سواه؟) نهاية الأسبوع الماضي. بينما يتهم بعض المتابعين لاستنهاض الحالة السلفيّة الجهاديّة في الشمال، طرفي الصراع بالتوافق الضمني على تجاهل خطورة الحالة الإسلاميّة التي ظهرت في الشمال، والتي كشفت عن أحد وجوه الشريك الآخر للتنظيمات الجهاديّة التي تتكاثر منذ انفكّت القبضة السوريّة. ورغم ذعر كثيرين ممّا سمعوه وشاهدوه على هامش المجزرة، لم يكن أحد بين المسؤولين مستعداً للمطالبة بتحقيق جدِّي يتجاوز آنيّة المجزرة، ويسأل عن خلفية خطباء المساجد الذين «وعوا» فجأة ضرورة قتال الشيعة والصليبيين، وأبعاد المؤتمرات العلنيّة التي عقدت لاستنهاض أهل السنّة. وعن الاستعداد المفاجئ للنائب السابق خالد ضاهر لخوض معارك مع شبان، يقول أصدقاؤهم إنهم فوجئوا باندفاعهم لقتال «المرتدِّين».

استغلال

أما سبب غضّ النظر هذا فيراه أحد المتابعين محكوماً بعدم استعداد أي طرف لفتح هذا الباب. وإصرار كل فريق على استغلال هذه المجموعات ظرفيّاً (على الطريقة الأميركيّة) لتوريط الفريق المناوئ له فيها، الأمر الذي يمنع، بحسب أحد الأمنيين، بلورة رؤية أمنيّة لواقع هذه التنظيمات «التي هي اليوم أقوى من أي يوم سابق». ونقطة الارتكاز في توسعها وتعزيز قوَّتها هي «الغباوة الأمنية والسياسية في التعامل معها»، ونشوة البعض بعملياتها استغلالاً منهم للأحداث في بعدها الآني دون النظر إلى المستقبل ودون أخذ أيّة عبر من درس «فتح الإسلام». وسط توقع من أحد الذين يمضون وقتاً طويلاً في سماع وجهات نظر الإسلاميين أن تكون هذه المجموعات السلاح الأبرز في لعبة شدِّ الحبال المتوقع أن تزداد بين الأميركيِّين والسوريِّين في الأسابيع المقبلة.
في التفاصيل، عادت الأسئلة الأمنيّة لتتردد مع انتشار روايات الشهود عمّا حصل قبالة مركز القوميين في حلبا. فالذين وفدوا من مناطق عدة دفعة واحدة، مدجَّجين بأسلحة مميزة وبسيارات باهظة الثمن، وكانوا منظّمين جيداً، ليسوا طبعاً من تنظيم «فتح الإسلام»، لكن لغتهم وغضبهم كانا أشبه بالصورة النمطيّة التي حفرها في مخيلة اللبنانيِّين مقاتلو هذا التنظيم وقبلهم مقاتلو الضنيّة الذين جمعتهم علاقات «مميزة جداً» بالنائب السابق خالد ضاهر، الذي اتُّهم مع مفتي عكار أسامة الرفاعي بالوقوف وراء ما حصل في حلبا. من هنا، فإن سامعي الروايات يخافون من تنظيم «فتح إسلام» جديد، سياسي ـــــ شعبوي أكثر منه أمني ـــــ نخبوي، ترعاه مرجعيّات دينيّة، تقاتل به أحزاب سياسيّة، يستغل تهوّره زعماء «وطنيّون»، ويبني عليه التنظيم الأم لتثبيت أقدامه في الوحول اللبنانيّة.

هواة المغامراتفيما كان الأميركيون، بحسب الأمني نفسه، يشجعون هذه «التشكيلات» لاعتقادهم أنَّها، بغض النظر عن أهدافها، تخفف الضغط عنهم في العراق من جهة، وتمكِّنهم من حشد الجهاديين في مجموعات صغيرة ضمن مربعات محدّدة تمهيداً للقضاء عليهم من جهة أخرى. إضافة إلى الرهان الأميركي ـــــ الإسرائيلي الأمني على قدرة هذه التنظيمات، التي تدعو لقتال الشيعة، على إرباك حزب الله وشغله جديّاً نتيجة تشابههما تنظيمياً وأمنياً. وسط تأكيدات أن حماسة هذه التنظيمات لقتال الإسرائيليين لن تؤثر عملياً على الكيان الصهيوني ولن تهدد وجوده، لكنها في المقابل ستوفر الذريعة الإسرائيلية لضرب حزب الله، كما ستؤثر مباشرة على خطط الحزب العسكريّة. وفي الحديث نفسه، يعبِّر أمني آخر عن اعتقاده بأن أجهزة أمنيّة عربيّة عديدة تشجع تحويل لبنان مقراً لتنظيمات كهذه، لأنها تطمئن إلى هشاشة الملاحقة الأمنية اللبنانيّة لها، فيبتعد أفرادها عن بلادهم التي تتشدد في مراقبتهم، وترتاح هذه البلاد منهم. إضافة إلى أن إيمانهم بقتال أهل الشيعة، فكرياً وعقائدياً وسياسياً وعسكرياً، يشكل خطوة إيجابية لأنظمة هذه الأجهزة على صعيد «صراع الهلالين».
أما محلياً، فيعتقد الأمنيّون القلقون من معلوماتهم أن الموالاة والمعارضة لم يتّعظا من درس «فتح الإسلام». فتيار المستقبل كان فرحاً باقتناص إحدى هذه المجموعات الفرصة للتحرك، في الشكل، دفاعاً عن أهل السنّة، وفي المضمون، لاستعادة هيبة تيار المستقبل، في ظل صراع ضمن «المستقبل» بين من يدعو إلى ضرورة احتضان هؤلاء القادرين وحدهم على حماية «المستقبل»، ومن يخافهم. وقد نجح الفريق الثاني في إقناع الحريري بالاتصال بداعي الإسلام الشهّال لمطالبته بالتوقف عن خطبه التحريضية، كما دفع الحريري برئيس كتلة المستقبل في عكار مصطفى هاشم صوب بلدته ببنين لفهم ما يقوم به مفتي عكار، ولقطع الطريق على استيلاء النائب السابق خالد ضاهر على زعامة المستقبل هناك.
من جهتها، يتابع المصدر نفسه، تعتقد قوى في المعارضة أن هذه المجموعات قادرة على إنهاء سيطرة تيار المستقبل على المجتمع السنّي، وهو الأمر المطلوب آنياً تمهيداً لمرحلة جديدة يكون عنوانها ضرب هذه السلفيّة، وهو أمر سهل نتيجة توافر غطاء دولي. وفي رأي أحد الأمنيين أن بعض زعماء المعارضة بسطاء في تفكيرهم واستغلاليِّون إلى حد الظن بقدرتهم على ترميم زعامتهم المذهبية نتيجة دفع هذه المجموعات صوب مزيد من التقوقع وكره الآخر.
إضافة إلى هؤلاء، يقول أحد المتابعين، هناك القاعدة طبعاً، التي راقبت بسرور كيف ألهب صمود مقاتلي «فتح الإسلام» قلوب مسلمين كثر في لبنان وجواره وأبعد منهما، وكيف تعززت عبر «فتح الإسلام» صورة الجهادي الذي لا يُقهر، وخاصة أن تدريب مقاتلي هذا التنظيم كان ثانويّاً مقارنة بمقاتلي القاعدة، وكانوا مجرد مجموعة صغيرة. كما تستفيد القاعدة من هذه الساحة الصغيرة لتضليل الأجهزة الاستخباراتيّة. وهي، بحسب المصدر نفسه، تستخدم لبنان كساحة تجارب لمؤيديها.


عهد الإختراق

يزداد القلق بعد وصول العماد ميشال سليمان إلى بعبدا بصفته بطل انتصار معركة البارد، يقول أحد المتابعين لحركة الجهاديين. فهذا التتويج يستفزّ مجموعات يقال إنها لم تتردد في تنفيذ حكم «إعدام» اللواء فرنسوا الحاج لاشتباهها بوقوفه وراء الهزيمة التي لحقت بمشروع «فتح الإسلام». ويتوقع المتابع أن يشهد عهد سليمان عمليات نوعية كبيرة تقفز فوق السياسيين بعدما استغل فريق منهم عمليات كهذه، وسط تأكيدات بأن مجموعات الجهاديين تتحصن بعيداً عن الأنظار في بعض الأحياء الشعبية في طرابلس والجرود الممتدة بين الضنيّة، المنية، وعكار، حيث أنشأت ممرات آمنة إلى البقاع وسوريا.



لو انتظر العبسي

تتقاطع روايات أكثر من متابع شمالي عند نقاط مشتركة تبدأ بالفهم الخاطئ لمعركة الجيش و«فتح الإسلام». فالبعض اعتبرها مواجهة مع رجال استخبارات سوريين، والبعض الآخر وجدها ترويضاً لفصيل من تيار المستقبل فقدت القيادة السيطرة عليه. وبموازاة الاثنين كان العماد سليمان تواقاً إلى انتصار يعزز ترشحه للرئاسة الأولى. لاحقاً، انتهت المعركة عند حدود فرار أهم مقاتلي هذا التنظيم، وتوقف البحث الجدِّي في المعطيات التي توافرت عن علاقة شباب العبسي بالخلايا النائمة على طول الأراضي اللبنانيّة، والمهمة التي كان العبسي يسعى إلى تحقيقها. واليوم، يرجّح هؤلاء أن يكون العبسي أكثر النادمين... فلو انتظر عاماً واحداً لوجد الفرصة مؤاتية أكثر لتحقيق مشروعه.