بعد مرور عامين على الاكتشاف المدوّي لـ«إنجيل يهوذا الاسخريوطي» الذي بيّضت مؤسسة «ناشيونال جيوغرافيك» صفحته وأعلنته صديقاً حميماً للمسيح لا خائناً كما ترى الكنيسة منذ ألفي عام، ها هي الحقيقة تنجلي بعيداً من ضوضاء الإعلام، إذ تستعدّ «ناشيونال جيوغرافيك» لإصدار طبعة منقحة ومصححة لترجمتها السابقة
جوان فرشخ يجالي

«يهوذا لم يكن التلميذ الخائن للمسيح، بل صديقه المقرّب الذي طلب منه المسيح أن يسلّمه للرومان»، تلك كانت الخلاصة الأولية لمشروع ترجمة إنجيل يهوذا التي أعلنتها مؤسسة ناشيونال جيوغرافيك منذ سنتين. نتيجة كان لها وقع الصدمة على أبناء الطائفة المسيحية في العالم أجمع، وخصوصاً أن العهد الجديد من الكتاب المقدس يصور يهوذا الاسخريوطي على أنه الخائن الأكبر الذي سلّم يسوع المسيح إلى جيش الرومان لصلبه مقابل ثلاثين قطعة فضة. والمعروف، بحسب الأناجيل، أن يهوذا قبّل المسيح فكانت قبلته علامة اعتقاله! ولكن، كان كل ذلك مجرد أسطورة سيئة، إذ كُتب في مخطوطة يعود تاريخها إلى القرن الثاني بعد الميلاد، أطلق عليها الباحثون اسم «إنجيل يهوذا»، أن الأخير كان الصديق المقرّب للمسيح، حتى إنه أطلق عليه اسم «الروح» الذي يعرف كل الحقيقة!
هذه الحقيقة «انجلت» حينما اشترت مؤسسة «ناشيونال جيوغرافيك»، ومقابل مبلغ قدره مليون دولار أميركي، حقوق الترجمة لهذه المخطوطة، وأطلقت النتائج خلال مؤتمر صحافي عالمي. بعدها وضعت المؤسسة في الأسواق كتاباً يشرح الإنجيل بالتفصيل وترجمته، وبيعت منه 250 مليون نسخة حول العالم! كما عُرض فيلم وثائقي عن المشروع تخطت نسبة المشاهدين فيه سبعة ملايين في الولايات المتحدة للعرض الأول، ليكون ثاني رقم عالمي بعد وثائقي أُعدّ عن أحداث 11 أيلول!
وأعطت المؤسسة لهذه الترجمة إشعاعاً عالمياً، حتى إن البعض عدّ ترجمة المخطوطة بمثابة اكتشاف مخطوطات البحر الميت. ضوضاء إعلامية عالية جداً لم تسمح لأيّ صوت ثان بالتعبير عن حقيقة ما جرى.
أما الآن، بعد مرور سنتين، فبدأت الحقيقة تظهر، وخصوصاً أن الاتفاقية السرية التي وقّعها فريق ترجمة المخطوط مع «الناشيونال جيوغرافيك» قد انتهت صلاحيتها، وأن الفريق المترجم يعمل على إعادة إصدار نسخة ثانية من ترجمة الكتاب منقحة ومصححة، لأن الترجمة الأولى للمخطوطة كانت تحوي أخطاءً جسيمة!
وكانت المؤسسة قد وظفت لترجمة المخطوطة عدداً من علماء اللغة القبطية التي كتبت بها النص القديم، واستقدمتهم إلى واشنطن حيث أسسوا فريقاً أطلقت عليه المؤسسة اسم «الفريق الحلم»، لأنه كان من المؤكد أنهم «سيقومون باكتشاف يوازي أحلام حياتهم». وأُعطي خبراء اللغة القديمة فترة 8 أشهر فقط لقراءة المخطوطة وترجمتها، التي كانت تشبه إلى حد كبير عشر أوراق مكتوب على وجهتي كل منها، وممزقة إرباً صغيرة ومرمية في علبة...
وفي مرحلة أولى، بدأ جمع الأحرف وقطع البردى لإعادة تركيب الكلمات فالجمل لقراءتها لاحقاً، وعادة ما يتطلب هذا المشروع سنوات من العمل، ولكن بسبب الضغط لإنهائه وإطلاق الفيلم الوثائقي والكتاب، كان لا بد من القيام بالعمل خلال أشهر فقط. وكانت الاجتماعات تتتالى وتُعطى نتائج الترجمة وتناقش الأحرف وإمكانات شرحها. فأتت ترجمة كلمة Daimon على أنها روح طيبة، فطرحت نظرية يهوذا الصديق الأمين للمسيح. نظرية «رقصت» لها المؤسسة بأكملها، وكان القرار نهائياً: ترجمة الإنجيل هي لتغيير فكرة عمرها 2000 سنة! ذلك هو السبق الصحافي العالمي!
وكانت البروفسورة دي كونيك، مدرّسة اللغة القبطية في جامعة رايس، أول من بدأ الشك بالترجمة، والشخص الوحيد الذي تجرّأ وصرّح في مقالة نشرت في جريدة النيويورك تايمز عن خطأ جسيم في الترجمة، ثم نشرت كتاباً في هذا الخصوص أجبر مضمونه «الناشيونال جيوغرافيك» على «إعادة النظر» في الكتاب الأول، وتصحيح الخطأ الذي يتمثل بحرف في كلمة Daimon التي ترجمها فريق الناشيونال جيوغرافيك بالروح وترجمتها هي «بالشيطان». فتحوّلت الجملة المنسوبة إلى المسيح في إنجيل يهوذا من «يا أيها الروح 13 لماذا تحاولين جاهدةً؟» إلى «يا أيها الشيطان 13 لماذا تحاول جاهداً؟»، ترجمة تقلب المعنى رأساً على عقب.
وتشرح دي كونيك في مقابلة مع صحيفة The Chronicle of Higher Education «أن مقولة الشيطان 13 في الكتابات المسيحية الأولى هي بمثابة لعنة، فيهوذا لم يسلّم المسيح لجيش الرومان كعربون صداقة وإخلاص، بل لأنه يقدم ذبيحة لإله آخر يدعى ساكلاس. وكان معروفاً، بحسب الكتب عن الكنائس الاولى، بأن إنجيل يهوذا كتبه أفراد من طائفة الغنوصيين لا يؤمنون بالمسيح كإله».
ولكن ما الذي دفع بفريق ترجمة «ناشيونال جيوغرافيك» إلى رؤية أخرى في المخطوطة؟ تقول دي كونيك إن الدافع قد يكون الفهم الإيجابي لنص القديس إرينيوس، مطران ليون، الذي كتب عن إنجيل يهوذا سنة 180 في كتابه «ضد الهراطقة» أن «يهوذا كان يعرف الحقيقة كما لا يعرفها أحدٌ آخر». فمن الممكن أنهم فسّروا ذلك أنه وقع إيجابي، ولكن في الحقيقة يبدو كأن إيرانيوس كان يقول إن يهوذا ليس خائناً بل لا يؤمن بالمسيح.
وكان لانتقادات دي كونيك وقعها على زملائها من علماء اللغة القبطية، وحتى على أعضاء «الفريق الحلم» الذين يتحضر أعضاؤه اليوم (بعد أن انتهت صلاحية العقد الذي وقعوه مع الناشيونال جيوغرافيك) إلى إصدار نسخة ثانية منقحة ومصححة لكتابهم الأوّل. وسيؤكد فقهاء اللغات القديمة هؤلاء أن ترجمتهم الأولى كانت تحوي أخطاءً، وأن هناك كلمات قد تترجم بمعان مختلفة، ما يفيد بأن الترجمة الأولى لم تكن «علمية» ونتائجها ليست نهائية، بل مطروحة للتداول، وأن النظرية التي طرحت عن محبة يهوذا وتقرّبه للمسيح ليست دقيقة بتاتاً. ولكن بالطبع، لن تكون هناك أية ضوضاء إعلامية للطبعة الثانية... وسيبقى الاهتمام بها محصوراً بالعلم والأكاديميا والنقاشات بين الفقهاء. أما عامة الناس، فالمعلومات التي تُعطى لهم هي من احتكار المؤسسات التجارية.