نقولا ناصيفرغم أن واجهة المأزق الذي يواجه تأليف حكومة الوحدة الوطنية هي الخلاف على توزيع الحقائب بين الموالاة والمعارضة، فإن له جوانب أخرى. بعضها يتوسّل إشعال الشارع للضغط السياسي، والبعض الآخر توجيه الرسائل غير المباشرة المتبادلة بين الطرفين. ومن هذه، ملفات تدخل في صلب مهمات الحكومة الجديدة في مرحلة لاحقة لتأليفها. والواضح من الاتهامات التي يتقاذفها فريقا النزاع أن كلّاً منهما، من وجهة نظر الآخر، يستعجل فتح ملفات أو طمر أخرى في ما يشبه خوضهما معارك وقائية ومبكرة بغية فرض أمر واقع يسبق تأليف الحكومة الجديدة، أو يكون جزءاً من التسوية عليها. وهو ما يصحّ على الحوادث الأمنية الأخيرة في البقاع، وقد اتخذ عنفها طابعاً مقلقاً يستعيد تدريجاً صورة ما حصل في بيروت، ويصحّ أيضاً على التصلّب في إعطاء الحقائب أو طلبها. في هذا النطاق يتبادل الفريقان اتهامات باستعجال بتّ تعيين قائد جديد للجيش وتحديد مستقبل الأجهزة الأمنية في المرحلة المقبلة. وهكذا يتساوى الطرفان في عضّ الأصابع. ومع أن موضوعي تعيين القائد الجديد ومصير الأجهزة الأمنية متلازمان، فإن إثارة كل منهما أخيراً انطوت على مبرّرات مختلفة، بدا ظاهرها إعلامياً أكثر منه سياسياً. وتبعاً لمطّلعين على الملف الأمني، لم يخض أي من الفريقين بعد في أسماء جديدة لمسؤولي الأجهزة في انتظار استحقاق تعيين قائد جديد للجيش، وذلك استناداً إلى معطيات، منها:
1 ـــــــ يمثّل تعيين قائد للجيش يخلف الرئيس ميشال سليمان أولى مهمات العهد الجديد، لكنه يتطلب أساساً تأليف حكومة الوحدة الوطنية التي تعيّنه. والواضح أن كلّاً من الموالاة والمعارضة معني مباشرة بالاتفاق على قائد جديد يبعث الطمأنينة في قلب الفريقين، ولا يشعر أيّاً منهما بأنه مصدر إرباك أو تهديد له، الأمر الذي أوجد، حتى الآن على الأقل، لائحة طويلة من المرشحين للمنصب، يحظى كل منهم تقريباً بتزكية هذا الفريق أو ذاك. وتشمل اللائحة أسماء عمداء أبرزهم احتمالاً جان قهوجي وشارل شيخاني وجورج مسعد وأنطوان كريم وأرمان طبشي وجورج خوري وبول مطر وشربل برق ومروان بيطار (رئيس لجنة التنسيق العسكرية اللبنانية ــــ السورية). ومقدار ما يُشعر تعيين القائد، الموالاة بأهمية دور الجيش في المرحلة المقبلة من أجل المحافظة على مكاسبها السياسية وحماية اضطلاعها بدورها عبر تحقيق أمن فعلي في كل البلاد بلا استثناء وتحديد مصير سلاح حزب الله خصوصاً، يُشعر هذا التعيين المعارضة بحاجتها أيضاً إلى قائد يطمئنها إلى عدم الاختلاف معها على موضوع السلاح، ولا يستعجل الاستراتيجيا الدفاعية إلا في نطاق الظروف المؤاتية لها. وهو مغزى أن تعيين قائد جديد يحتّم التوافق مسبقاً عليه في مجلس الوزراء بثلثي الأصوات. إلا أن كلاً من الموالاة والمعارضة يملك عرقلة تعيين قائد لا يحظى بتأييده من خلال النصاب الذي يمسك به في المجلس. وفي أوساط كل من الفريقين همس جدّي بالإصرار على قائد يستجيب تبديد مخاوفهما، وإلا فلا تعيين إطلاقاً. في حصيلة غربلة اللائحة، يكاد يبقى منها اسمان أو ثلاثة حداً أقصى يتوافق عليهم الأفرقاء في انتظار كلمة رئيس الجمهورية. لكن ذلك يقترن بحقيقة مستترة هي تعيين قائد لا يستفزّ دمشق. أو على الأقل يتخذ مساراً مماثلاً للذي سلكه سليمان في السنين التسع الأخيرة على رأس القيادة، وأخصها ما بين أعوام 2005 و2008.
2 ــــــ بعدما سلّم الجميع بواقع الأجهزة الأمنية على نحو بدا كل منها جهاز استخبار طائفة بسبب ترؤس ضابط له ينتمي إليها ويحظى بتأييد مراجعها السياسية والدينية، باتت الأجهزة في صلب الخلاف السياسي بين الأفرقاء. وبعدما سعت قوى 14 آذار إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى رفع صور قادة الأجهزة الأمنية السابقين وحمّلتهم مسؤولية الاغتيال، وقلبت التوازن السياسي الداخلي رأساً على عقب، بإبعاد هؤلاء ثم توقيفهم بالتهمة نفسها واستمرار اعتقالهم، يأتي الواقع الجديد الذي نشأ عن حوادث 7 أيار ليعيد المشهد نفسه، وهو إعادة النظر في الأجهزة الأمنية الحالية التي عُيّن عدد من قادتها في ظلّ التحالف الرباعي الذي نشأ قبيل انتخابات 2005. وهي حال تعيين اللواء وفيق جزيني مديراً عاماً للأمن العام، واللواء أشرف ريفي مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي، والمقدّم وسام الحسن رئيساً لشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي. أما العميد جورج خوري فعيّن مديراً للاستخبارات في أعقاب طلب العميد الموقوف ريمون عازار إجازة إثر اغتيال الحريري.
وكان جلياً في معظم تلك التعيينات انتماء أصحابها إلى الأفرقاء السياسيين مقدار انتمائهم إلى طائفتهم. ووقع بعض هؤلاء أسرى النزاع والانقسام السياسي الحاد بين الموالاة والمعارضة كحال جزيني والحسن، والنظر إلى البعض الآخر على أساس أنه خيار سياسي مقدار ما هو خيار أمني كأشرف ريفي الذي لم ينفِ مرة أنه يعدّ نفسه ـــــ وفريقه بمن فيه وسام الحسن ـــــ نتاج قوى 14 آذار والتحوّل السياسي الذي ترتب على اغتيال الرئيس السابق للحكومة، ومن غير أن يتردّد أيضاً في وضع قوى الأمن في خانة المواجهة مع سوريا ما دامت هذه تزعزع الاستقرار في لبنان. واجه جزيني أزمة مع وزير الداخلية، وواجه الحسن أخرى مع المعارضة دون أن ينقطع خيط اتصاله بالمسؤول الأمني في حزب الله وفيق صفا، وظلّ الرجلان، في أسوأ لحظات انهيار علاقة الحزب بتيار المستقبل، قناة الحوار السرّية المفتوحة. كان قائد الجيش العماد ميشال سليمان قد جنّب مديرية الاستخبارات استدراجها، كالأجهزة الأخرى، إلى مستنقع الانقسام السياسي.
3 ـــــ يشكو كلّ من الأجهزة الأمنية من أسباب لاستهدافه. عين المسيحيين على الأمن العام لاستعادة المنصب، وهو ما يرفضه الشيعة. ويبدو أن الرئيس ميشال عون يجهد لتحقيق هذا الهدف. وواجه مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي أزمة عندما قاطع اجتماعاته قبل أكثر من سنة ونصف ثلاثة من أعضائه الـ11، هم العمداء محمد قاسم وعدنان اللقيس وأنطوان شكور، رغم أن ريفي لا يزال يمسك بالنصاب القانوني لانعقاد المجلس (ثمانية أعضاء من أحد عشر)، لكن من غير أن يملك هامش المناورة. وخلافاً لما يشوب واقع الأجهزة اليوم، انتقلت عدوى الانفراج الجزئي الناتج من اتفاق الدوحة إلى مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي الذي يلتئم بعد ظهر اليوم بأعضائه جميعاً، للمرة الأولى، منذ مقاطعة الضباط الثلاثة، في إشارة إلى لمّ شمله الذي أوجبه توافق سياسي مفاجئ.