أنطوان سعدكان انتخاب رئيس للجمهورية مطلباً ملحّاً للمسيحيين خصوصاً، لأن فئة واسعة منهم كانت تعتقد أن بإمكانه تشكيل رافعة لبلورة حيثية جديدة مستقلة عن القوى المسيحية المصطفّة وراء طرفي النزاع اللبنانيين المرتبطين بمحورين إقليميين ويشلّان الحياة العامة ويقطعان أوصال الدولة وأجهزتها. ويهبطان، بالتالي، بمستوى الممارسة الديموقراطية إلى أدنى درك لم تشهد له مثيلاً الحياة السياسية اللبنانية منذ الاستقلال.
وفي اعتقاد هذه الفئة أن الانقسام سوف يبقى عمودياً، وسوف يستمر التدهور ما لم تنكسر الأحادية أو الثنائية القطبية في الطوائف وتتبدد الكتل النيابية الكبيرة لتحل مكانها مجموعات صغيرة أو مجموعة أفراد تتمتع بهامش مقبول من حرية التحرك وتبديل المواقف من المسائل المطروحة بمعزل عن إرادة أربعة أو خمسة أشخاص يحتكرون الحياة السياسية في لبنان منذ ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة.
وبما أن القوّتين الإسلاميّتين شديدتا الارتباط بالمحورين السعودي والإيراني، ولا يبدو حتى الآن أن ثمة قوى جدية داخل هاتين الطائفتين تفكر أو تعمل على كسر هذا الاحتكار، تعتقد أوساط مسيحية أن الحل الوحيد الباقي هو أن يشكّل رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان رافعة لتظهير قوة سياسية مسيحية جديدة، من شأنها أن تبلور حركة أو مشروعاً أو رؤية أو طريقة لخلق جسر بين الطرفين المتنازعين. وبالتالي تشكيل قوة قادرة من جهة على رعاية وفاق وطني بينهما، ومن جهة ثانية، إذا لم تُجدِ محاولات التقريب بين هذين الطرفين تشكيل قوة رادعة قادرة على أن تمارس عليهما ضغطاً معنوياً لإحراجهما أو على الأقل إحراج الطرف المسيحي داخل كل من المعسكرين لحمله إما على ترك معسكره أو على الضغط على حلفائه من أجل الاتجاه صوب الحل الوسط.
وباعتقاد هذه الأوساط، يمكن لرئيس الجمهورية أن يعمل على إطلاق هذه الحركة من خلال خطة متكاملة قائمة على ثلاثة محاور وعلى المزج الدقيق بين وظيفتي الحَكَم والحاكم:
1ـ اختيار وزراء ـــ ولو كان عددهم مجحفاً بحق الرئاسة الأولى ـــ يتمتعون بديناميكية وطموحات سياسية، ولكن من طراز رفيع ومن الناجحين في حياتهم العملية الخاصة. تماماً كما فعل الرئيس الراحل فؤاد شهاب عندما قرر توسيع الحكومة الرباعية في أيلول عام 1959، واستعان بالمحامي والقاضي السابق فؤاد بطرس وسواه من النخب السياسية والقضائية والإدارية التي برزت وأعطت الشهابية رونقها. وهذا يعني أن على الرئيس أن يتجنب أمرين: الأول توزير شخصيات ممجوجة ملّها اللبنانيون، والثاني اختيار وجوه جديدة لا تتمتع برؤية وثقافة عالية ومواهب أو لا لون لها ولا رائحة، وغير ديناميكية. وعلى الرئيس سليمان أن يتشدد لدى تأليف الحكومة الثانية من عهده ويحاول استرجاع حق رئيس الجمهورية بالثلث المعطل الذي توافق النواب المجتمعون في مدينة الطائف سنة 1989 على أن يكون من نصيبه مقابل نزع صلاحيتي إقالة الحكومة وحل مجلس النواب.
2ـ رعاية إطلاق تجمّع أو حركة سياسية ديموقراطية بكل ما للكلمة من معنى، تضم نخباً مخضرمة وشابة تعمل على صياغة المشروع المشار إليه أعلاه. ومن ثم الاستعانة بهذه النخب في الملفات التي تتابعها الرئاسة الأولى أو في الحكومات المقبلة أو في التعيينات الإدارية والدبلوماسية.
3ـ التفكير ملياً في النتائج التي يمكن أن تترتب على دور رئيس الجمهورية في الانتخابات النيابية في عام 2009، إذا قرر دعم لوائح مرشحين مستقلين أو أحد الفريقين المتنازعين أو إذا قرّر البقاء على الحياد. فلكل موقف تداعياته التي ينبغي التحسب لها. وفيما يرى بعض المراقبين أن من شأن دعم ترشيح مستقلين أن يعطي العهد زخماً يحتاجه وأن ينهي الثنائيات والأحاديات القاتلة للحياة السياسية اللبنانية، فإن أوساطاً مسيحية مستقلة أخرى تخشى أن يؤدي هذا الأمر إلى زيادة الشرذمة في الصف المسيحي. إذ هي تعتقد أن الرئيس لن يتمكن من اختراق أي ساحة إسلامية أو درزية لأن كلاً منها مقفلة بإحكام بنتيجة عوامل محلية وإقليمية عدة. وبالتالي سوف يزداد التفتت في الشارع المسيحي، ولن يجدي إذّاك كل المديح الذي يوجّهه المثقفون المسلمون للتعددية السياسية عند المسيحيين ما دام تكتل الآخرين يحرمهم من حقوقهم في عملية المشاركة الفاعلة في صناعة القرار اللبناني.
أما أهم ما ينبغي أن يفكر به الرئيس ميشال سليمان فهو كيف سينهي عهده، وبماذا يريد أن يتذكر اللبنانيون سنوات حكمه. وهذا غالباً ما ينساه رؤساء الجمهورية في السنوات الخمس الأولى، وفي بعض الأحيان طوال السنوات الست أو التسع من عهودهم. وقد يكون إنجاز إخراج البلاد من الثنائية القاتلة أكثر ما يمكن الاعتداد به.