جان عزيزيروى عن سارتر قوله مرة، إنه لم يذق طعم الحرية فعلاً، إلا تحت الاحتلال النازي. ثمة شيء مماثل، يجري في لبنان، بين حقبة الوصاية السورية وحقبة ما بعدها. ففي ظلّ وجود سوري عسكري وأمني خانق، كان ثمة إحساس في معظم «الشوارع» اللبنانية، بأمل وانفتاح أفق. فيما تنصرم ثلاثة أعوام ونيّف على جلاء شبه كامل للتركة السورية، وعلى اتفاق لبناني جديد، في ظل شعور لبناني متنامٍ بالضيق والتبرّم وبعض الخيبة وانسداد الرؤية. هل الأسباب مقتصرة على عرقلة ما بعد الدوحة؟ أم إن ثمة سبباً أكثر عمقاً وجوهرية؟
الذين يقرأون أعماق الحقائق وبواطنها يربطون بين هذا الوضع، وبين ما يصفونه بأزمة الخطاب والمشروع، لدى القوى السياسية الأساسية. وفي تدقيق سريع في عوارض هذه الأزمة، يلاحظ أنه ليست مصادفة أن أي قطب سياسي رئيسي، لم يعلن وثيقة سياسية دستورية مفصلة، ترسم مشروعه للبنان الغد. وتقول الطرفة السياسية، إن عدم إعطاء الأجوبة في لبنان، مربح سياسياً أكثر. بدليل أن الوسط المسيحي مثلاً، ظل طيلة عقود يتوجس من التيارات اليسارية، لأنها تملك «إجابة» عن معضلة أزمة النظام. فيما ظل هذا الوسط نفسه مشدوداً في المقابل إلى بيار الجميل، لمجرد أنه كان يطرح عليه «السؤال»: أيّ لبنان نريد، من دون جواب ولا من يجاوبون.
لكن غياب الأجوبة صار في الأعوام الماضية، سمة كل اللبنانيين، أقلّه الأجوبة الجدّية والعلنية، والتي تجمع الفكر مع العمل، فتبتعد عن حدَّي التنظير والباطنية السياسية.
ربما لأن غالبية لبنانية من كل «الشوارع»، بدت وكأنها أمضت الأعوام الثلاثين الماضية من الحرب، وفي مخيّلتها نموذج واضح للحل والسلام، منذ عام 1975 وحتى عام 2005، ظلت أكثرية ما، تنظر إلى مرحلة ما بعد هذه الحرب وتنظِّر لها، انطلاقاً من قواعد الحل التي أرسيت في مرحلة ما بعد حوادث 1958. وبمعزل عن آراء ظلت أقلّوية، كتلك الجانحة يساراً بالدعوة إلى نظام أكبر من «دولتنا»، على طريقة الدولة المدنية أو العلمنة، أو تلك المتحصّنة شوفينياً بالحديث عن أنظمة أصغر من «الدولة» نفسها، فالواضح أن غالبية في الوسط ظلّت تنظر إلى نهاية حرب منتصف السبعينيات» كما حدث مع نهاية ثورة أواخر الخمسينيات. أي أن تخرج من الأحداث العسكرية دولة لبنانية قوية تؤمن شراكة متوازنة بين المسيحيين والمسلمين، ولا يكون وجهها الرسمي مقسّماً بين الطوائف، بل عابراً لها في صيغة فوقية مقبولة ما. إنه نموذج «اللاغالب واللامغلوب» على المستوى الداخلي، ونموذج آخر على المستوى الخارجي، عنوانه «اللاتعريب واللاتغريب». على أساس التفاهم مع القوة العربية الأساسية حول مقتضيات الانتماء إلى المحيط، في مقابل أن يفهم المحيط كله مقتضيات الميثاق الدقيق في بيروت.
على مدى 30 عاماً من الحرب، ظلّت غالبية تنتظر طربوش حسين العويني ربما، واجتماع الخيمة خارجياً مثلاً، في إطار دولة «نهج» ما جديد مسيحي إسلامي، يطوي الحرب والثورة، في أسبابها اللبنانية والعربية والدولية في آن واحد.
لتأتي المفاجآت بين 2005 و2008. خرج النظام السوري من لبنان. انتخب رئيس. أقر اتفاق «طائفي» جديد. ولم يتغير شيء. ربما لأن كل ما سبق تمَّ قبل أن تحصل التسوية الميثاقية بين مسيحيي هذا البلد ومسلميه، وحتى قبل أن يتمّ التوصل إلى تسوية بين بيروت ودمشق. في أسابيع قليلة انقلب الزعماء المسلمون أنفسهم على خطابهم السياسي الذي التزموه طيلة عقدين ونيف، وانقلب الوضع التوأمي بين لبنان وسوريا توتراً مفتوحاً على كل احتمالات التصعيد. صدر القرار الأميركي فحمله المجتمع الدولي وخضع له الجميع، قبل إنضاج صيغة «اللاغالب واللامغلوب» لبنانياً، وقبل الوصول إلى معادلة التوفيق بين الاستقلال والاستقرار بين لبنان وسوريا.
هكذا سقط «السيّاديون» في فخ الوصول إلى هدفهم. خرج السوريون من لبنان، قبل أن يدرك السياديون أن النظام الحالي في دمشق هو غير نظام عبد الناصر، لتصلح معه قاعدة «اجتماع الخيمة»، وقبل أن يكتشف جميع اللبنانيين أن «الحريريين» في لبنان لم يعودوا مسلمي 1958 لتفلح معهم حكومة عويني آخر، وقبل أن يعترفوا بأن المسيحيين في لبنان، ما عادوا مسيحيي أواخر الخمسينيات، القادرين على إفراز «نهج» جديد عابر للوطن، وصالح لطربشة كل جماعاته برضى وقبول تامّين من الجميع.
خرج النظام السوري من لبنان، فيما عينه على لبنان كله، وعين المسلمين على النظام وتوازناته، وعيون المسيحيين تكاد تكون مغمضة عن كل ذلك، ما خلا قلّة يصح فيها قول العين البصيرة واليد القصيرة. في ظل هذا الواقع صارت أزمة الخطاب والمشروع سيدة الموقف لدى القوى الأساسية. قوى تبدو كمن وصل إلى حيث يجهل أين الذهاب من هنا.
ما هو السبب الجذري لهذه المعضلة؟ قد يكون أن في لبنان من لا يتغيرون في سلوكياتهم وأفكارهم وأسمائهم حتى، وسط منطقة أبدع كلود شيسون في وصف مفارقتها ذات مرة، بالقول: إنها منطقة قد يتغير كل ما فيها بين يوم وآخر، وقد لا يتغير شيء فيها بين قرن وآخر.