عشق الجمال ولم يعشه فأخرجه لوحات زاهيةلم يدخل علي فرحات يوماً مدرسة للرسم، وكلّ ما تعلمه في المرحلةالابتدائية كان رسم الخريطة والعلم اللبنانيَّيْن. لكنه كان يعرف منذ طفولته أنه رسام، وأنه يوماً ما سيخرج من نفق وُلد فيه ليعرض رسوماً زاهية الألوان أتقن تركيبها بحسياسيته المفرطة
مهى زراقط
كان قصر الأونيسكو يضجّ بالحياة، فقاعته الرئيسية شهدت لتوّها حفل تخرّج نظمته إحدى مدارس بيروت لتلاميذها. شبان وصبايا توزّعوا في مدخل القصر وممرّه، يتحدثون بأصوات مرتفعة تنجح في بث عدوى السعادة في المحيط. في قاعة أصغر إلى اليمين، كانت السعادة موزّعة على الجدران. ألوان زاهية لبيوت وجدران وأعمدة، لفاكهة وبقايا طعام. لمياه آسنة في مغسلة، ولقمصان معلّقة في خزانة خشبية مهترئة. يتسلّل إلى تلك القاعة فتاة وطفل صغير. الأخير يرتدي بذلة رمادية لم تمنعه من الركض في القاعة الخالية... يركض حتى يرتطم بساقَيْ رجل كان انتهى لتوّه من تعليق لوحات الباستيل، وأسمائها، على الجدران. ينظر إلى الطفل ويقول ساخراً: «لو يعيرني هذه البذلة؟».
هو علي فرحات، صاحب المعرض الذي وُجّهت الدعوة إلى حضور افتتاحه في ذلك الوقت (10 حزيران الجاري). كان يرتدي قميصاً أبيض وبنطال جينز. ليست ملاحظة مهمة، قبل أن تعرف أن فرحات كان قد ارتدى هذه الثياب منذ خرج من منزله صباح ذلك اليوم، وبدأ نقل لوحاته من «جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية» في الجميزة، حيث كان قد أقام معرضاً في شباط الفائت، إلى قصر الأونيسكو، وحاول إنجاز تعليقها قبل الساعة السادسة مساءً موعد الافتتاح.
موعد نجح في الالتزام به نسبياً، فلم يتأخر عن الزائر الأول إلا نصف ساعة. ذلك الزائر رجل أربعيني، خرج من مركز عمله للتوّ: «كلما سمعت عن معرض أو أمسية موسيقية أحرص على الحضور لكي أُخرج نفسي قليلاً من الجو الضاغط. أحتاج إلى فسحة من الفرح» يقول، معترفاً بأنه لم يسمع يوماً بعلي فرحات. يبدأ الزائر جولته بين الجدران الثلاثة، في وقت كان فيه فرحات يبحث عن نقطة ماء «يبلّ بها ريقه». يعود ويرخي جسده على كرسي بحث عنها طويلاً ويخرج تنهيدة، تنقل زائر المعرض من جوّ إلى آخر، إذا سمعها.
ربما كان فرحات يعرف هذا الأمر، فيختار عدم الكلام على حياته وظروفها، يحكي محطات صغيرة من حياة تناهز الخمسين عاماً، ويختصرها، ليبدّد جواً من التشاؤم، بجملة واحدة: «قد أكون بدأت أخرج من النفق». تدور الأسئلة حول نفسها لكي لا توقع الرجل في الإحراج ودفعه إلى قول ما يرغب في الهروب منه. «ظروفي قاسية» جملة كافية، لا تفاصيل إضافية رغم أن الرجل مغرم بالتفاصيل التي تدلّ عليها لوحاته من دون أن توحي بالحزن الذي يسكنه. فهو لم يكتشف حبه للرسم، إلا مع اكتشافه أنه يحبّ الأشياء الجميلةإذا بدِّك تعرفي كيف حبيت الرسم، كنت أحب الأشياء الحلوة». هذه الأشياء وجدها في منطقة الأشرفية حيث أمضى طفولته في ستينيات القرن الماضي. «كان أهالي المنطقة عندهم مجلات وكتب كثيرة ويقرأون. وعندما كان بعضها يقع بين يديّ كنت أتوقف عند الرسوم الجميلة، وخصوصاً الشخصيات. لم تكن الصور تلفتني، بل الرسوم التي رحت أقلّدها». في المدرسة أيضاً كان يفضل «ساعة الرسم وساعة الأشغال اليدوية». أحبّ شكل البيضة وخريطة لبنان فـ«تخصص» برسمهما حتى كانت الإجابة الدائمة عن سؤال «وين علي؟» إنه «عم يرسم خريطة». لكنه رسم أيضاً جسم الإنسان وعضلات جسده «وشجعني إتقاني للرسم على الاستمرار».
في الثالثة عشرة من عمره كانت الحرب الأهلية قد اندلعت وبات على العائلة مغادرة الأشرفية. تزامنت تلك المرحلة مع رسوبه في شهادة المرحلة الابتدائية وبدء حياته العملية. حاول متابعة دراسته ليلاً، لكنه لم ينجح بسبب «الظروف القاسية» لعائلته التي انعكست أيضاً على علاقته مع الرسم «كبرت في بيئة معاكسة لما أحبه، أبي كان يسخر من رسومي، وإمكاناتنا كانت ضعيفة، كما أثّرت الحرب علينا بشكل كبير».
يقفز علي فجأة إلى عام 2000، الذي عاد فيه إلى لبنان بعد 8 سنوات أمضاها عاملاً في دبي. «في مطعم مرة وفي فندق ثم سائق سيارة». لا يغوص في التفاصيل ويرفض قول ما لا يجده مهماً عن حياته قبل دبي، لكن يمكن استنتاج أنه عمل في مهن مختلفة ولم يلق تعاوناً من المحيطين به، حتى ليحافظ على عمل يؤمن له مورد رزق.
حتى عام 2000 كان الرسم حلماً يعرف أنه سيحققه يوماً، لكنه لم يفكر به جدياً إلا بعد عودته من دبي مع مبلغ من المال أتاح له ولعائلته بعض الاستقرار وشراء بعض معدات الرسم. قبل ذلك كان يحصل على الألوان والدفاتر من أصدقاء آمنوا بموهبته «لكني لم أحصل على مساعدة جدية من أحد». وبمناسبة الحديث عن المساعدة، لا ينسى صورة سيدة رأته يرسم مرة في الجامعة الأميركية فراحت تنادي طفلها «تعا يا ماما شوف كيف عم يرسم، مش أنا جبتلك ألوان ودفاتر وطاولة، قول شو بدك بعد؟»، يقول علي: «كانت ترجوه وتحتال عليه ليحب الرسم، موفرة له كل ما يحتاجه، أما أنا...».
هو احتال على ظروف حياته ليرسم، رغم أنها فرضت عليه تقنيات محددة. الباستيل هو ما يناسبه، يحمل أوراقه وألوانه في حقيبة صغيرة يضعها تحت إبطه ويمشي. «هذه لذّة الباستيل، في أي مكان تذهبين إليه تجلسين وترسمين». الأمر مختلف بالنسبة إلى الرسوم الزيتية: «لا أنجح فيها، تحتاج أقلّ شي 3 أيام لتنشف. كيف سأحمل لوحة في سيارة أجرة أو باص، خصوصاً أني أرسم غالباً في أماكن عامةالطبيعة كانت ما حرّك حسياسيته، وبيوت الأشرفية التي كبر فيها، فراح يرسمها. يختار الموقع فيزوره في اليوم التالي. يمضي وقتاً قبل أن يجد زاوية مناسبة يجلس فيها بعيداً عن عيون المارة ويمضي نهاراً كاملاً يرسم خلاله لوحة تنتهي مع مغيب الشمس. في عام 2003 كان قد أنجز مجموعة من الرسوم وبدأ يفكر بعرضها.
«شاهدت السيدة ميرنا البستاني على شاشة «ال بي سي» وكانت تحكي عن مهرجان البستان فزرتها وحضّرت المعرض الأول». لا يبدو راضياً عن نتيجته الذي «خرج بتكاليفه» إضافة إلى الصعوبات التي واجهها: «كان الطقس بارداً وكنت أتنقل سيراً على الأقدام معظم الأوقات بسبب عدم وجود سيارات أجرة، أنزل سيراً إلى عين سعادة مشي حتى أجد من يوصلني إلى بيروت».
تجاربه المرّة مع العديد من «غاليريات» الرسم كانت تحبطه «يحتاج الأمر إلى علاقات لا أملكها، وإلى مبالغ لا أستطيع توفيرها، لذلك أعرض حيث يتاح لي مجاناً، كما الآن في الاونيسكو». وإلى اليوم نجح فرحات في تنظيم خمسة معارض، الأول في فندق البستان (2003) ثم درج الفن (صيف 2003) زيكو هاوس (نيسان 2006) والجميزة والأخير في الأونيسكو الذي انتهى يوم الجمعة الفائت.
يحرص علي في ختام المقابلة على القول: «المشوار طويل طويل، أحلم بالمزيد، لكني أحتاج إلى إمكانات واستقرار».


يعرض ليرسم مجدداً

شكّل «نافذة بيروتية»، عنوان المعرض الذي نظّمه فرحات في شباط الفائت «نافذة» توصلنا إليه. نتصل بالجمعية للحصول على وسيلة اتصال به، فتأتي الإجابة: «نحن أيضاً نبحث عنه، لم يأت بعد لأخذ لوحاته ولا نعرف له عنواناً ولا رقم هاتف».
تمرّ الأيام مع وعد إعلامه بسؤالنا المتكرّر عنه عندما يأتي لأخذ لوحاته، وهو ما حصل في 9 حزيران الجاري «سأعرض 4 أيام في الأونيسكو» يأتي صوته عبر الهاتف ويشرح عندما نلتقيه: «أين كنت سأضع لوحاتي في انتظار عرضها مجدداً». فقد توقف المعرض الأول بسبب الأحداث الأمنية التي شهدتها بيروت آنذاك «اضطررت إلى عرض لوحات كنت قد احتفظت بها لنفسي لكي أطلّ بأعمال جديدة».
يعرض فرحات لوحاته ليُعرف، وأيضاً ليرسم مجدداً، وكلّ معرض ينظمه هو بداية انطلاقة جديدة. لذلك يحيا متقشفاً، رغم أن رسومه ليست مورد رزقه «أسكّج مع صديق لي يطلب مني مساعدته في تصديق معاملات فأؤمن مصروفي».