نقولا ناصيفالزيارة المفاجئة لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس لبيروت، أمس، جاءت متأخرة لسبب ومبكرة لآخر. تأخرت في تقديم التهنئة الشخصية لرئيس الجمهورية ميشال سليمان على انتخابه بعد انقضاء ثلاثة أسابيع على هذا الانتخاب، وبكّرت لتقديم تطمينات جديدة إلى قوى 14 آذار حيال التطورات الأخيرة والموقف الأميركي منها، ومن سوريا التي توشك على فكّ العزلة الأوروبية عنها. وهذا ما عبّرت عنه رايس، إبّان جولتها على المسؤولين والمراجع اللبنانية، عندما تحدثت عن تنازلات أوجبها اتفاق الدوحة لحل الأزمة اللبنانية.
لكن زيارة رايس انطوت كذلك على مؤشرات عدة:
1 ــــ لم يكن حلفاؤها الفرنسيون، الذين يستعيدون المبادرة السياسية حيال لبنان وسوريا، على علم بها، مع أنهم برّروا جزئياً التكتم حيالها تارة بأسباب أمنية وأخرى بتهنئة الرئيس اللبناني، وتأكيد واشنطن أنها راضية عن انتخابه. وهي الزيارة الأولى التي تقوم بها رايس لرئيس لبناني منذ آخر اجتماع بينها وبين الرئيس السابق إميل لحود في قصر بعبدا في 23 تموز 2005، قاطعته على أثرها، وكذلك الزوار الأميركيون الرسميون، مكتفية وإياهم بالاجتماع برئيس الحكومة فؤاد السنيورة على أساس أنه الممثل الشرعي الوحيد للسلطة اللبنانية. على أن الزيارة المفاجئة، في توقيتها، تلت زيارة الموفدين الشخصيين للرئيس نيكولا ساركوزي لدمشق الأحد الفائت (15 حزيران)، كلود غيان وجان دافيد ليفيت في إطار انفتاح فرنسي على نظام الرئيس بشار الأسد توطئةً لفتح صفحة جديدة في العلاقات الفرنسية ـــــ السورية. الأمر الذي يحمل الفرنسيين على الدفاع عن دعوتهم الأسد إلى حضور العرض العسكري في جادة الشانزيليزيه في 14 تموز المقبل، غداة «قمة الاتحاد من أجل المتوسط». ليست دعوة خاصة ولا متميّزة، بل في سياق دعوة 50 رئيس دولة أخرى سيشاركون في القمة ويحضرون بدورهم العرض العسكري.
2 ـــــ لا الأميركيون ولا الفرنسيون ينكرون وجود تباين في الموقف من العلاقة مع سوريا. تقول واشنطن إنها لا تثق بالأسد، وتعتقد باريس أن من الضروري انتظار تغيّر الأهداف التي سبق أن رسمتها دمشق لنفسها في المنطقة، والتأكد هل تريد السير في الطريق الصحيح الذي يتوخّاه منها المجتمع الدولي. لكن الطرفين يلتقيان على عدم وصف التباين بالتناقض. وهما إذ يجهران بتأييد اتفاق الدوحة وتنفيذ بنوده كاملة بما في ذلك التوازن السياسي الجديد الذي حدّده بين الموالاة والمعارضة، يدركان أن آلة الحكم في لبنان تحتاج إلى وقت كي تنطلق، ويتفهمان مبرّرات تأخر تأليف حكومة الوحدة الوطنية. ولذا لا يدرج الدبلوماسيون الفرنسيون زيارة رئيسهم للبنان (7 حزيران) في إطار استعجال تأليف الحكومة، ولا نظراؤهم الأميركيون وضعوا زيارة رايس في الإطار نفسه. لكن واشنطن وباريس تعترفان بطريقة أو بأخرى، وفق أسلوب المقاربة، بأن سوريا شاركت في مداولات اتفاق الدوحة والتوصّل إليه، وكذلك في انتخاب الرئيس اللبناني. وكما حُمّلت جزءاً من مسؤولية العرقلة، تحمّل جزءاً من مسؤولية التسهيل.
وتبعاً لمصادر يبلوماسية على صلة بالموقف الأميركي، تحبّذ واشنطن تأليف لجنة أميركية ـــــ فرنسية تتولى تنسيق سياستهما حيال لبنان وسوريا، وخصوصاً أن الأميركيين يعتقدون أن وقوف فرنسا إلى جانبهم فيهما يمكّنها من النجاح. ووفق ما لمسته المصادر ذاتها، فإن جولات التفاوض غير المباشر السوري ـــــ الإسرائيلي عبر تركيا ساعدت الفرنسيين في القيام بنشاط مستقل بإزاء لبنان وسوريا، وتحديداً على أثر اتصال ساركوزي بالأسد (27 أيار) لشكره على دور سوريا في إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية.
3 ـــــ ترى باريس أنه لا يمكن فصل العلاقة الثنائية مع دمشق عن الوضع في لبنان. فبمقدار تحسّن هذا الوضع تتقدّم العلاقة الثنائية. بل تذهب إلى القول إن استقرار لبنان أضحى ملازماً لنجاح هذه العلاقة، رغم أن الدبلوماسية الفرنسية تجد قاسماً مشتركاً بين سوريا وإسرائيل في ربط العلاقات الثنائية بالجوار المتوتر. وما كان يسمعه الفرنسيون منذ عام 2004 ولا يزالون من الإسرائيليين الذين كانوا يلحّون على عدم ربط الموضوع الفلسطيني بعلاقة باريس بتل أبيب، سمعوا ولا يزالون من السوريين وصفاً مشابهاً له، وهو أن دمشق تريد علاقات إيجابية مع فرنسا، ولكن دون ربطها بالموضوع اللبناني وتعقيداته. وكان السوريون ينفرون في كل مرة تحدّث الفرنسيون أمامهم عن ذلك الترابط وحتمية المقايضة، ويقولون إنهم لا يتدخّلون في الشأن اللبناني وإنه ذو آلية حلّ مستقلة، ويحبّذون فصل الموضوعين أحدهما عن الآخر.
4 ـــــ كما حملت زيارة ساركوزي لبيروت تطمينات إلى الموالاة والمعارضة في آن واحد، نقلت رايس إلى زعماء الغالبية تطمينات أشد إصراراً على دعمها وتبرير مطالبها، وهو ما أبرزته مجدداً بتأييدها تكليف السنيورة ترؤس الحكومة الجديدة، كذلك عبّر عنه البيان الأميركي ـــــ الفرنسي المشترك الذي أصدره ساركوزي بعد لقائه الرئيس جورج بوش في الإليزيه (14 حزيران) عبر ربطه تهنئة سليمان بتهنئة تكليف السنيورة. على أن واشنطن وباريس تفترقان بعضهما عن بعض في توزيع تطميناتهما. رغم تسليم واشنطن بتغيّر توازن القوى بعد هجوم حزب الله على بيروت، تعتبر أن الحزب ـــــ وإن ربح عسكرياً مئة في المئة ـــــ عجز عن ترجمة هذا الانتصار سياسياً مئة في المئة، كما أنها تقلّل من أهمية حصول المعارضة على الثلث الزائد واحداً في الحكومة الجديدة بعد إقرار المحكمة الدولية. كذلك، فإن الأميركيين الذين لاحظوا أن الجيش اللبناني لم يقاتل في اضطرابات 7 أيار، عبّروا عن ارتياحهم إلى بقائه موحّداً، وفي ظنّهم أنه سيقاتل في يوم آخر. وذكروا أن الإدارة الأميركية تلقّت منه طلبات عدة للحصول على أسلحة وعتاد ومساعدات عسكرية، وأن وزارة الدفاع الأميركية ألّفت لجنة لتحليل الطلبات وتقويمها قياساً بما يحتاج إليه. في المقابل تبدو تطمينات باريس أوسع مدى بتأكيد وقوفها على مسافة متساوية من طرفي النزاع، ولا تكتم تعاطفاً تضمره حيال قوى 14 آذار. وخلافاً للأميركيين الذين يرفضون الحوار مع حزب الله، لم تتردّد باريس في محاورته، وهو ما عبّرت عنه، رمزياً على الأقل، المحادثة القصيرة بين ساركوزي ورئيس كتلة نواب حزب الله النائب محمد رعد في صالة السفراء في قصر بعبدا إبان الغداء التكريمي للرئيس الفرنسي. وسواء اتسم حوار الدقائق بمضمون مجدٍ أو لا، يرى ساركوزي في سلاح الحزب مشكلة للاستقرار اللبناني وللبنانيين أنفسهم، ويدعو إلى إيجاد تسوية له بطريق الحوار.