أنطوان سعدتشكل الأزمة الحكومية الراهنة الامتحان الجدّي الأول لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الذي كان يحق له، أسوة بمعظم أسلافه، بفترة سماح تمتد على الأقل ستة أشهر، يتمتع فيها بفرصة حقيقية لتشكيل حكومة تريحه وتمكّنه من بدء ترجمة أفكار خطاب القسم الرئاسي على أرض الواقع. غير أن تكبيله بأحكام اتفاق الدوحة وبمقتضيات دور «الرئيس الحكَم» المتمسك بالبقاء على مسافة واحدة من الفريقين وبتداعيات النزاع الحاد المستمر بين سوريا والسعودية عبر حلفائهما في لبنان المباشرين وغير المباشرين، جعله غير قادر على أخذ أية خطوة من دون أن يفقد صفة الحياد أو تنفجر به الألغام الكثيرة المحيطة بقصر بعبدا.
تتشعب أزمة تشكيل الحكومة وتتداخل فيها عناصر كثيرة، ولكن محورها الأساسي هو حقيبة الدفاع. فالرئيس منذ أن كان المرشح التوافقي للرئاسة مصرّ على إسناد حقيبة الدفاع للوزير الياس المر «لأنه كان متعاطفاً ومسانداً في شكل مطلق للجيش وقيادته منذ تشكيل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في صيف عام 2005، ولأنه كان يأخذ دائماً رأي القيادة في كل مسألة تخص الجيش كانت تطرح في مجلس الوزراء»، وفق ما كان العماد سليمان يقوله لزواره في تلك الفترة. كما إن المساعي التي كان يقودها النائب ميشال المر لتزكية العماد سليمان سبقت تحرك معظم أركان المعارضة والموالاة وسبّبت له مشاكل مع حليفه رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون. الرئيس يشعر بأنه مدين لآل المر الذين يحتاجون إلى موقع مهم في معادلة السلطة بعدما خرجوا من المعارضة ولم يدخلوا بالكامل بعد فريق الموالاة، فيما الانتخابات النيابية على الأبواب.
في المقابل، فريق الأكثرية بمسيحييه ومسلميه لا يريد أن تكون للجنرال عون حقيبة سيادية حتى لا يتعزز واقعه في الشارع المسيحي الذي لم يحظ أركان أحزابه الأساسية بوزارة سيادية منذ أن كان الرئيس كميل شمعون وزيراً للمال في حكومة الرئيس رشيد كرامي التي تشكّلت قبل نحو ربع قرن. فيما من النافل القول إن عون متمسك بالحقيبة السيادية للأسباب نفسها التي من أجلها ترفض الأكثرية حصوله عليها. أما معارضة حزب الله وسوريا لإسناد هذه الحقيبة إلى الوزير المر فخلفياتها سياسية وأمنية ومرتبطة بحسابات معتبرة مصيرية، ومن باب التحسب لاحتمالات خطر واختراق لا مجال للقبول بها على حدّ اعتقادهما، ولا سيما في هذه المرحلة التي تشهد تبدلات وتلوح في أفقها عواصف عسكرية.
وبحسب مصادر مطّلعة، أرسلت قيادات معارضة رسائل غير مباشرة إلى رئيس الجمهورية تحثّه على التخلي عن المر، داعية إياه إلى الاعتبار من تجربتي الرئيسين السابقين الياس الهراوي وإميل لحود اللذين برأيها خسرا كثيراً من هيبة حكمهما وصدقيته من جراء الاتكال على آل المر وإطلاق يدهم في التعيينات الإدارية وإدارة العمليات الانتخابية. وقد أرفقت الرسالة بالمثل الشعبي القائل «إذا ما متت ما شفت مين مات؟». وتفيد هذه المصادر بأن الاعتراض على الياس المر بالنسبة إلى المعارضة في وزارة الدفاع أمر لا رجوع عنه حفاظاً على مصالحها، فيما هي مستعدة لأن تتساهل إذا أراد الرئيس سليمان توزيره وإسناد حقيبة أخرى إليه. أما نصيحتها له بأن لا يوزّره فهي حفاظاً على مصالح الرئيس نفسه.
إزاء هذا الواقع المتشعب، وتعنّت كل الأطراف، لا يسع رئيس الجمهورية البقاء متفرجاً وفق ما كان يفعل عندما كان في وزارة الدفاع، منتظراً التوافق عليه. كما إنه ليس عليه التسرّع تحت وطأة الوقت الثقيل الضائع الذي ينعكس بلا شك على صورة عهده. فالحكومة الأولى من عهد الرئيس الراحل الياس سركيس تأخر تشكيلها أكثر من شهرين. وليس مستحباً أيضاً طلب تدخل خارجي لتسوية الخلاف الراهن على رغم أن له أسباباً خارجية، لأن من شأن التدخل في كل منعطف أن يؤثر سلباً على الرئيس كما على مجمل التجربة الديموقراطية اللبنانية التي أذتها الطبقة السياسية الحالية إلى حد كبير.
الحل يجب أن يأتي من رئيس الجمهورية ويقوم بالدرجة الأولى على تخيير الطبقة السياسية التي اتفقت في الدوحة على حسابه، بين استكمال تطبيق الاتفاق في ما بينها دون التمترس به أو إقحامه، وبين إطلاق يده وإعادة زمام المبادرة إلى قصر بعبدا كما تقتضي الأعراف اللبنانية لكي يلعب دور الحكم المطلوب منه. وهذا الدور شروطه معروفة وهو أن يعتذر الرئيس المكلف ويجري التوافق على تشكيل حكومة حيادية.