أنطوان سعدأثارت ردود الفعل على موقف رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون المتعلق بإناطة مسؤولية الإشراف على هيئات الرقابة برئاسة الجمهورية، استغراب العديد من المراقبين القريبين من المعارضة والموالاة. طبعاً لا بد من الإقرار بأن العماد عون أخطأ بالتوقيت والطريقة التي طرح فيها هذه المسألة التي تتداول بها منذ الصيف الماضي العديد من الأوساط، وبخاصة الأوساط المسيحية المحايدة.
أما الخلفية التي تتحرك فيها هذه الأوساط، فلا تندرج في إطار المزايدات الطائفية، بل من الواقع السياسي الذي فرضته الأجواء المحيطة بالانتخابات الرئاسية. فبعدما ثبت بما لا يقبل الشك أن رئيس الجمهورية في لبنان لا يمكن أن ينتخب إلا بتوافق بين القيادات السياسية اللبنانية من كل الطوائف والاتجاهات، وأن الأكثرية النيابية، أيّاً كانت، قادرة على أن تفرض على الأقلية مَن تختاره لتأليف الحكومة، تبيّن أن ثمّة حاجة لوصاية مستقلة على الهيئات التي تضمن حسن سير الإدارة. وبما أن موقع رئيس الجمهورية بحسب الدستور هو السهر على سير عمل المؤسسات، وبما أن الرئيس هو ثمرة توافق جميع القوى الممثّلة في مجلس النواب، فمن المفيد ربط هذه الهيئات برئاسة الجمهورية.
والهدف من هذا الأمر هو أن تكون هذه الأجهزة مستقلة ومتحررة من الضغوط السياسية الساعية، من دون خجل أو مواربة، إلى تسخير أجهزة الدولة ومواردها في سبيل خدمة المحازبين وإلى منع مناصري الفريق المنافس من الاستفادة منها. وبكلام آخر، يرمي هذا التحرك إلى إبقاء هيبة ما مستقلة فوق المسؤولين في الإدارات الذين سوف تعيّنهم أو تتقاسمهم القوى السياسية اللبنانية، قادرة على فرملة الانتهاكات من جانب الأحزاب والتيارات أو الحد منها على الأقل. إذ إن تعيين مناصري هذه القوى على هيئات الرقابة من شأنه أن يضعف الرقابة على الإدارة ويجعلها غير فاعلة، وخصوصاً في ظل الانقسام الحاد بينها، لا بل قد تصبح هذه الهيئات محلية لتصفية الحسابات مع الموظفين المتعاطفين مع القوى المتخاصمة.
ربما أخطأ العماد عون في التوقيت، وكذلك في طريقة الطرح، وربما كان المستحسن ألا يثير هو بالذات هذه المسألة، إلا أن اللافت أن جميع مَن كان يمكن أن يستفيدوا من تحييد الإدارة، وخصوصاً في هذه الفترة الفاصلة عن موعد إجراء الانتخابات النيابية المقبلة، انبروا لمواجهته من خلفية طائفية. فالرؤساء سليم الحص وعمر كرامي ونجيب ميقاتي، إذا قرروا خوض الانتخابات، أو على الأرجح دعم مرشحين لها، فسوف يواجهون، إضافة إلى الماكينات الانتخابية ذات القدرات المالية الضخمة التي لم يعد سراً أنها تجاوزت عشرات الملايين من الدولارات، تسخير موارد الدولة وأجهزتها وخدماتها في سبيل اجتذاب أصوات الناخبين الذين في نهاية الأمر سوف يرضخون لأولياء الأمر، ما دام مَن لهم شيء من القدرة والمصلحة في تحييد الإدارات لم يقوموا بما يلزم من أجل تفادي ذلك.
المؤسف أن الجميع وقعوا في فخ المصلحة الطائفية التي تعلو في لبنان كل المصالح. وبدلاً من تلقّف هذه الفكرة والسعي إلى تصويبها وبلورتها بما يحفظ هيئات الرقابة ويحصّنها، أطلق النار عليها وربما قتلت في المهد. وقد تكون مسؤولية الجنرال في ذلك موازية لمسؤولية مَن رفضوها وصوّروها استهدافاً للطائفة السنية.
اللافت أن المتغيرات الكبرى التي حصلت في البلاد بعد انتهاء الحرب، ولا سيما على مستوى توزيع السلطات والصلاحيات على المؤسسات الدستورية الثلاث، أي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء، لم تؤد إلى تبديل في سلوك زعماء الطوائف، وبقيت بالتالي الخلفيات المؤثرة على خطابهم السياسي هي نفسها: الزعماء المسيحيون لا يزالون يتصرفون على أساس أن المسيحيين أكثرية عددية ويسمحون لأنفسهم بمواقف وشعارات وسياسات تؤذي دورهم تماماً، وخصوصاً كما تصرفوا مع الرئيس السابق العماد إميل لحود. والزعماء الشيعة لا يزال يطغى على خطابهم قضايا الحرمان والخدمات والتوظيف والاستفادة من تقديمات الدولة. والزعماء السنّة لا يزالون يشعرون بأن عليهم تعزيز صلاحيات رئاسة الحكومات والسيطرة على أكبر عدد ممكن من النواب والوزراء وإسناد المواقع الأساسية في الإدارة لأبناء طائفتهم.
لقد تغيّر الكثير منذ موقف الرئيس الراحل عبد الحميد كرامي في آب 1954 المُطالب بتحديد الصلاحيات بين رئاستي الجمهورية والحكومة، مطلقاً بذلك الخط الذي انتهى بوقوع الحرب سنة 1975 وبتلاحق الأوراق الإصلاحية التي انتهت بانتزاعه معظم صلاحيات رئيس الجمهورية. وعلى جميع الأطراف أن يأخذوا كل المتغيّرات في الحسبان وينكبّوا على إعادة تقويم للواقع اللبناني في ضوء مصلحة البلاد ومن غير استعمال كلام ثقيل من عيار الاتهام بالمسّ بالبنود الميثاقية.