جان عزيزيروي بعض المترددين إلى قصر بعبدا هذه الأيام، وهم أنفسهم المترددون إلى اليرزة في «أيامها الرئاسية»، أن الرئيس ميشال سليمان حريص إلى أقصى الحدود، على تخفيف الأثقال والأحمال والأسمال، عن شخصه وعن عهده. ويروي هؤلاء أنه منذ ما قبل انتخابه، أكد العماد في حينه، أنه سيسعى إلى تشكيل فريقه السياسي، والحكومي تحديداً، بالابتعاد كليّاً عن ثلاث دوائر: الأقرباء أولاً، والأصدقاء ثانياً، والعسكريين ثالثاً. وقيل إنه يدرك صعوبة هذا القرار، وأسى وقعه على المعنيين والطامحين والواعدين أنفسهم، وخصوصاً عندما كانت الصيغة الحكومية المطروحة لا تزال على قاعدة العشرات الثلاث، ما فتح شهية كثيرين على حقائب عشر موعودة للرئيس. وصعوبة القرار كانت أدهى، نظراً إلى طبيعة ميشال سليمان وشخصيته، كما يروي المترددون أنفسهم. فهو يميل إلى التعاطي الفردي مع كثيرين، واستمزاج آراء العديد، وعقد جلسات ثنائية مع أكبر عدد من المهتمين وسماع آرائهم طويلاً. وهو ما نسج حوله شبكة متشعّبة من أسماء قيل إنها موعودة أو مضمونة أو أسمعت شيئاً، أو أحبت أن تكون قد أسمعت وسمعت.
غير أن الواقع الجدي، يتابع هؤلاء، كان مغايراً كليّاً. حتى إن بعضهم يروي أنه قيل للرئيس مرة، يحكى أن شقيقك ـــــ القاضي والمحافظ أنطوان سليمان ـــــ سيكون وزيراً للداخلية، فرد بإيماءة سلبية من يده والعينين، معلّقاً: «يمكن محافظ ما يبقى...».
ومع هذا الحرص الشديد على دفع أية سمة من سمات المحسوبية، يروي المترددون أنفسهم أن ثمّة نقطتين حساستين في هذا المجال ظلّتا ظاهرتين إلى العلن. الأولى محدودة النطاق، وتتعلق بالإطار الجبيلي، والعمشيتي تحديداً. والثانية أكثر عمومية وانعكاساً، وهي تلك المتعلقة بتوزير إلياس المر. الإطار الجبيلي ـــــ العمشيتي، لم يلبث أن وجد سبيلاً سريعاً للمعالجة والحل. فبعد أيام قليلة على توقيع اتفاق الدوحة واتّضاح كون حقيبة الداخلية من حصة بعبدا، لم يلبث أن عمّمت شائعة مفادها أن سيّد الصنايع سيكون نائب جبيل السابق ناظم الخوري. غير أن نفي المقولة كان أسرع، وانتقل الخوري مستشاراً رئاسياً. ويعتقد المترددون إلى القصر، أنه سرعان ما تم التنبّه إلى ضرر تلك الشائعة. ذلك أن ترجمتها فعلاً، كانت ستؤدي إلى إقامة «سلالة» عمشيتية ـــــ وإن كانت مسبوقة في بنية الإقطاع السياسي اللبناني ـــــ إلا أنها ستترك آثاراً سلبية على عهد وفاقي في انطلاقته، إذ لا يعقل أن تنسج «سلالة» كاملة، بدءاً من مختار بلدة ما ـــــ وهو للمصادفة شقيق آخر للرئيس ـــــ مروراً بمحافظ النطاق الإداري، ومن ثم إلى نائب للقضاء، مفترض من عمشيت أيضاً، فوزير للداخلية من البلدة نفسها، انتهاءً برئيس البلاد.
وإذا كانت «العقدة» الجبيلية قد حُلّت فوراً ـــــ ولو جزئياً، في انتظار الانتخابات النيابية المقبلة ـــــ فإن عقدة المر ظلّت أكثر إلحاحاً وأوسع تأثيراً وتردّداً. ويعتقد المترددون إلى بعبدا في هذا السياق، أن تمسّك الرئيس بتوزير إلياس المر، لا يعود أساساً إلى تلبية طلب أميركي، بل ينطلق أوّلاً من مبدأ وفاء ميشال سليمان لمَن يعتقد أنهم يستحقون وفاءه. ويشرح هؤلاء من عنديّاتهم الخاصة، أن وفاء الرئيس لوزير دفاعه، عائد بالأولوية إلى الدور الذي قام به المرّان، الأب والابن، في استحقاق ترشيحه قبل الفراغ الدستوري بأكثر من عام، ومن ثم في استحقاق انتخابه، قبل 25 أيار 2008 بأسبوعين.
ففي الاستحقاق الأول، يرجّح هؤلاء أن يكون المر الابن قد أدى دوراً أساسياً في نزع الفيتو الأميركي على ترشيح قائد الجيش للرئاسة منذ أكثر من عام، وهو الفيتو الذي نسجه في واشنطن فريق الموالاة، وخصوصاً بعد حوادث 23 كانون الثاني 2007، يوم عمدت المعارضة إلى الاعتصام وقطع الطرق بإحراق الدواليب. يومها استغل الحريريون الحدث لإحراق ميشال سليمان أميركياً. حتى إنهم أطلقوا عبر اللوبي الاغترابي الخاص بهم، مسعى لإحالة سليمان واللواء الشهيد فرانسوا الحاج وضباط آخرين إلى محاكمة دولية. لكنّ المرّين نجحا في معالجة المسألة، من القاهرة إلى واشنطن.
أما في استحقاق الانتخاب، فكان للمر الابن أيضاً دور أساسي في إحباط محاولة قام بها بعض فريق قريطم لاستغلال حوادث 7 أيار الماضي، للتخلّص من رئاسة سليمان، وحتى المطالبة بمحاكمته. وهو ما كان قد طرح في اجتماع موسّع عقد يومها لدى أحد أركان هذا الفريق.
... غير أن التمسّك بالمر في اليرزة، لم يكن كافياً لحل عقدته. لا بل بدا كأنه يؤزّم الوضع ويزيده عقداً. حتى إن الصورة باتت اليوم، بحسب اعتقاد أصحاب الرواية أنفسهم، كالآتي: المر في الدفاع، يعني لا حكومة. والخيارات المقابلة تنفتح كل يوم على جديد. من حرق الموالاة عبر دعوتها إلى إقرار قانون الانتخاب، وصولاً إلى احتمال خروج المعارضة من الحكومة، وانتظارها أيار المقبل، لمعارضة دائمة وحاسمة.
في تشرين الثاني 2004، وقع المرّان في المأزق نفسه. ولم يلبث الأب أن خرج منه بحنكته الثاقبة وخبرته العتيقة. فهل تتكرّر التجربة، وفاءً من المرّين للعهد والرئيس؟