حرمانه من التعليم أورثه عقدة نقص وغذّى حساسية الكاتبلا يمكن الجزم إن كان الحوار مع صبحي أيوب صعباً أو سهلاً. تشعر بصعوبته بسبب حساسية الرجل، إذ تخنق صوته الدموع عند كلّ محطة كانت مفصلاً في حياته، فيتوقف عن الحديث وينتقل إلى محطات محايدة تجاوز فيها خيباته. وتشعر بسهولته لأن الرجل قاصّ، يعرف ماذا يسرد وفي أي إطار يوظّف ما يسرده
مهى زراقط
يأتي صبحي أيوب إلى اللقاء راغباً في الحديث عن تقنيات القصة القصيرة، عن هواية مارسها معظم حياته من دون أن يكون واثقاً من أنها قائمة على بنية صحيحة، لكنه يفاجأ بأسئلة تصبّ في مكان آخر. أسئلة عن الطفولة، الشباب، الاغتراب، والثروة التي كونّها كما «كلّ أبناء يارون». ففي تلك البلدة الجنوبية الملاصقة لمارون الراس، لا أهمية للمال لأن الغالبية تملكه.لم يشعر أيوب بتميّزه بعد نجاحه في رحلة اغترابه، بل نجح باعتراف عام خلال ندوة أدبية بأنه قاصّ متمكّن. هذا الاعتراف هو الذي جعل أبناء بلدته ينظرون إليه بعين مختلفة، ويسألونه رأيه في أمور كثيرة، رغم أنه لم يكمل تعليمه بل حصل على الشهادة الابتدائية عندما كان في الـ21 من عمره.
ومن الشهادة الابتدائية تبدأ قصة صبحي، الطفل الذي نشأ في أسرة محدودة الإمكانات «كنت أشعر بهذا الأمر، وترك أثراً في نفسي. لذلك ما زلت أشعر بقيمة أيّ شيء أملكه وأنه كثير عليّ». كيف لا وهو الذي اضطر لترك الدراسة والنزوح إلى بيروت للعمل في عام 1950 «كان عمري 11 سنة يوم اللي طلعت من المدرسة».
في ذلك العام كان على أيوب الانتقال من مدرسة يارون إلى مدرسةبنت جبيل للحصول على الشهادة الابتدائية، وكانت ظروف العائلة صعبة مادياً «فضّل والدي أن ألتحق بشقيقي الذي انتقل، بعد النكبة، من العمل في حيفا إلى بيروت». قبل تنفيذ القرار، زار صبحي طبيب الأسنان في بنت جبيل وكانت عيادته تطلّ على المدرسة. سأل الطبيب: ليه الصبي مش بالمدرسة؟ فأجابه الوالد: والله بدي ابعتو يشتغل ببيروت، فقال له خليه ياخذ «السرتفيكا» بالأول.
«اقتنع أبي وذهب مباشرة إلى المدرسة لتسجيلي، واشتريت كتباً مستعملة. لكنه عاد وغيّر رأيه قائلاً: الأفضل أن تذهب للعمل في بيروت». في البوسطة التي كانت ستقلّ أيوب من بنت جبيل، التقى زملاءه في المدرسة. مشهد لا يمرّ من دون دموع... ثم غصة في الصوت يستطرد بعدها «كلّن سألوني ليش إنت مش بالمدرسة؟».
سؤال سيتكرّر كثيراً في حياته، لكن بصيغة تعجّب «معقول إنت ما معك السرتفيكا؟ ولا مرّة حسيناك ما تعلّمت». ذلك أن الفتى صبحي سيعلّم نفسه بنفسه. كان ينهي عمله في مصنع البلاط ويجلس عند مدخله مراقباً التلاميذ ذاهبين إلى مدراسهم. «كنت أتأثر كثيراً، ولأعوّض خسارتي صرت أقرأ كلّ ما أجده حولي من أوراق مبعثرة، وجرائد، وأذكر أن صاحب المصنع كان عنده جريدتا «التلغراف» و«الطيّار»، فصرت أدخل إلى مكتبه لأقرأهما، وعندما انتبه إلى الأمر سمح لي بأن آخذها معي مساءً». بعدها صار يشتري مجلتي «صباح الخير» و«روز اليوسف» فأحب رسوم يوسف فرنسيس وأشعار صلاح جاهين... ثم انتقل إلى الكتب «قرأت جبران، وكلمّا تقدمت في السن كنت أبحث عن قراءات مختلفة ولكن بشكل عشوائي من دون توجيه، قرأت معظم قصص إحسان عبد القدوس، وعندما كبرت انتبهت إلى أن هذه القصص لم تكن عميقة». خلال هذه الفترة أيضاً كانت كتابة الخواطر هوايته المفضلة «لم أتوقف يوماً عن تسجيل كلّ ما يخطر في بالي، وراسلت بريد القراء في مجلة الحوادثفي عام 1961 لمعت فكرة في رأسه «كنت معجباً بثياب الشرطة في بيروت، فقلت لنفسي: بدّي أعمل دركي. عرضت الفكرة على زملائي الذين انتقلوا للدراسة في بيروت وشجعوني للتقدّم إلى امتحانات السرتفيكا، فانتسبت إلى مدرسة ليلية ونجحت». بعدها تقدّمت إلى الأمن الداخلي أكثر من مرة «كلّ مرة كانوا يرفضونني لقصر قامتي، وأنا كنت أفسرها لقصر وساطتي». في تلك الفترة أيضاً تزوّج إحدى فتيات قريته واستمرّ عاملاً حتى عام 1966 حين حصل على تأشيرة سفر إلى غواتيمالا. بقي هناك شهراً ونصف شهر ولم يحصل على إقامة «كان معي 235 دولاراً وعليّ المغادرة، فانتقلت مع صديق لي إلى المستعمرة البريطانية بيليز، وكان ثمن تذكرة السفر إليها 32 دولاراً». يصف صبحي هذا القرار بالمغامرة «نزلنا في المطار الذي يشبه كاراج تصليح سيارات درجة خامسة. ولأن العرب قلما يدخلون هذا البلد، اتصل الأمن العام بالقنصل اللبناني، سركيس أبو نهرا، الذي أرسل في طلبنا واستقبلنا جيداً وساعدنا للانتقال إلى كوروسال (عند حدود المكسيك) حيث تتوافر بعض فرص العمل». قبل ذلك سأل القنصل صبحي عن ميوله السياسية مخمناً أنه يساري. يضحك هنا ليخفي تشنجه وهو يستعيد تلك المرحلة الصعبة، ويكرّر إجابته آنذاك: «عامل شو بدّي كون؟». يكمل ضاحكاً «وعندما سألني عمّ أحلم بتحقيقه أجبته: أريد 10 آلاف ليرة لأفتح مصنعاً في لبنان... وكان كلما التقى بي يسألني: أدّيش صاروا المصاري؟ وأنا أجيب: بعد شوي يمكن المصنع يكلّف أكثر».
في كوروسال كانت البداية صعبة «كنت أشتري بضاعة من فلسطيني من رام الله، ودائماً كنت أقول يا ريت يصير عندي محل مثل محله. بعد 3 سنين كان محل الملابس الذي فتحته أكبر من محله بأربع مرات». سببهذا النجاح يقينه بأن الإنسان إذا حلم بشيء فهو سيحققه.
قرار العودة إلى لبنان اتخذ في توقيت خاطئ، لأنه تلى الاجتياح «في شهر 11 من عام 1982 عدت إلى بلدتي يارون وأقمت تحت الاحتلال». وفي يارون كتب القصة الأولى عن معاناة امرأة في القرية «وضعت لها عنوان الضحية وأرسلتها إلى مجلة النهار العربي والدولي فنشروها تحت زاوية قصة، وكتبوا لي جملة أسفلها مثّلت نقطة البداية لي: قصتك لافتة في أسلوبها وحرارتها وننتظر المزيد».
استمرّ في إرسال القصص التي وقعها بداية باسم «برهان أيوب ـــ يارون» لأنه كان لا يزال يشعر بنقص وخجل من اسمه «فأنا غير متعلّم». وعندما توقفت تلك المجلة عن الصدور «لم يعد عندي مجال للاتصال بمجلة أخرى». لكن قصصه لفتت نظر أكثر من شخص أبدوا إعجابهم بما كتبه «ومنهم من طلب مساعدتي لأدلّه إلى الطريقة الصحيحة في الكتابة». يضحك بطفولة «وأنا الذي كنت أحلم بإيجاد من يساعدني ويقول لي إن كان ما أكتبه جيداً فعلاً». الناقد الأول كان صديقه الدكتور مصطفى بزي الذي شجعه كثيراً «لكني بقيت خائفاً وراغباً في تشجيع مختصّ، فهذا يدفع من عنده مركّبات نقص بسبب قلة التعليم».
ومرّت الأيام.
تحرّر الجنوب، وبسبب نعمة التحرير «بدأت أعيش تحولات نفسية وشعرت برغبة في تأدية فريضة الحج». في المطار تعرّف بالدكتور عبد المجيد زراقط «أستاذ جامعي وقاص وناقد، وعدني أن يقرأ قصصي عندما نعود من الحج وهذا ما كان». قلق كبير عاشه أيوب قبل أن يحصل على إجابة شافية «قال لي أنا أشجعك وحرام أن تتوقف عن الكتابة، وكان له الفضل في نشر أول مجموعة لي (تل الفرح)، وفاجأني بجملة كتبها في مقدمة المجموعة: صبحي أيوب وُلد ليكون قاصاً»... وهو يستعدّ اليوم لإصدار مجموعة ثانية يحتار في وضع عنوان لها.


«دون» أيوب

تجارة وسياسة

شهد صبحي أيوب محطة تاريخية هي الاحتفال بإعلان استقلال بيليز في عام 1981 «كنت من الذين حضروا في الصف الأول عندما أُنزل العلم البريطاني، وكنت يومها صرت مستر (دون) أيوب».
فقد نجح أيوب في تجارته واستطاع تكوين ثروة متواضعة تتيح له العودة إلى لبنان والعيش بمستوى جيّد. يذكر أنه كان معتاداً على تغيير واجهة محله كل ستة أشهر «مرة لفتت نظري سيدة إلى أني أستخدم لون المعارضة في طلاء المحل، ونصحتني بأن لا أفعل لأن مؤيدي الحزب الحاكم لن يشتروا من عندي.
فوراً غيّرت اللون». لافتاً إلى اعتماد أهل البلد على أصوات العرب «وكان علينا مراعاة الطرفين، يجب أن تكون علاقتنا جيدة مع الحزب الحاكم، لكننا كنا نمدّ جسوراً مع المعارضة».