تبادل الاتّهامات كالعادة والشعّار يعتبر الجيش آخر الرصيدطرابلس ــ عبد الكافي الصمد

لم يُسهم تدخّل الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي في نزع فتيل التوتر تماماً بين الطرفين المتنازعين في طرابلس، ولا في إرساء الاستقرار بين محلّتي باب التبانة وجبل محسن. فبقي جو الاحتقان أمس مخيّماً، وترجم عبر الاعتداء على محال تجارية ومنازل سكنيّة. مما دفع إلى التساؤل عن الدور الحقيقي الذي يمكن أن تقوم به هذه القوى العسكريّة الرسميّة في الدفاع عن المواطنين، وفرض هيبتها التي تعرضت لانتكاسات، وعن مستقبل السلم الأهلي في طرابلس وغيرها، في ضوء غياب أي توافق سياسي يمكنه أن يشكل غطاءً لأي توافق أمني.
فبعد دخول القوى الأمنية إلى المنطقتين، وانتشارها في شوارعهما وأزقتهما الداخلية، إثر الاشتباكات العنيفة التي دارت يومي الأحد والاثنين الماضيين، وأدّت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، شهدت الشوارع الرئيسيّة حركة خجولة، أغلبها لمواطنين أتوا لتفقّد محالّهم وبيوتهم، ومعاينة الأضرار، فيما بقي معظم المحال التجارية مقفلاً، وبقي الأهالي أسرى منازلهم.
لكن الهدوء الحذر سرعان ما تبدّد وحلّ مكانه جوّ مشحون دفع القلّة من المواطنين الذين أعادوا فتح محالهم في شارع سوريا ومتفرعاته، إلى إقفالها سريعاً، نتيجة تعرض بعض المحال التجارية ومنازل ومحطات وقود للحرق، بعد إقدام مجهولين على إضرام النيران فيها ومحاولة سرقتها.
وأوضح مسؤولون في المجموعات المسلّحة في باب التبانة أن هذه «الأعمال ردّة فعل من مواطنين وجدوا بعد انتهاء الاشتباكات أن منازلهم ومحالهم وسياراتهم تعرّضت للقصف والحرق والتدمير والسرقة، فقاموا بما قاموا به للتنفيس عن غضبهم».
ولفت هؤلاء المسؤولين إلى أن «جو الاحتقان السائد لم يعالج بعد، وأن الطرف الآخر (أي في منطقة جبل محسن) لم يقم بأي بادرة حسن نية، كما أن الارتباك لدى القوى الأمنيّة، وتأخّرها في تدارك تدهور الأوضاع، أدّيا إلى حصول الاعتداءات، مما دفع المرجعيات الأمنية إلى الوعد بمعالجة الوضع سريعاً».
وأضاف المسؤولون ذاتهم «إن عدم وجود مرجعيّة سياسية وأمنية موحدة في المنطقة، أدى إلى انفلات الأوضاع بهذا الشكل».
أجواء التوتر والقلق كانت بادية بوضوح في شارع سوريا ومعظم أنحاء المنطقة. فبعدما أضرم مجهولون النار في محطة وقود قرب مستديرة الملولة يملكها شخص من جبل محسن، تتابعت الاعتداءات، فأحرق محل قرب طلعة الكواع، وآخر في حي البقار، ومنزل في شارع ابن سينا في القبة، قبل محاولة الاعتداء على محال أخرى في سوق القمح، مما دفع الجيش إلى التدخّل، مطلقاً رصاصه في الهواء لإبعاد المعتدين.
إلا أن مشهدين لافتين جذبا الأنظار وطرحا أسئلة لم تلق أجوبة، بقدر ما أثارت قلقاً واستغراباً. المشهد الأول تبدّى في وجود عشرات الدشم والمتاريس وأكياس الرمل عند أطراف الأزقة والشوارع، مما أعاد إلى الأذهان صوراً من الحرب الأهلية لم تمحَ من ذاكرة أهالي المنطقة.
أمّا المشهد الثاني فتمثل في التفاف مجموعات من شبان المنطقة حول عناصر من قوى الأمن الداخلي انتشرت فيها، وإن غابت عنها المظاهر المسلّحة، وقيامهم بواجب الضيافة تجاه هذه العناصر، في حين بقي تعاطي عناصر الجيش مع المواطنين رسميّاً وجاداً.
في غضون ذلك، وفي تعبير عن انزعاج بعض القوى السياسية من بقاء الأوضاع خارج السيطرة، أشارت مصادر سياسيّة إلى أن «اتصالات مكثّفة حصلت بين فاعليّات الموالاة والمعارضة في الساعات الماضيّة، تبعتها اجتماعات شدّدت على ضرورة معالجة الأمور سريعاً، وعدم السماح لعناصر غير منضبطة بخرق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه، لأن أي تدهور جديد قد يستدرج أطرافاً آخرين إلى الساحة، ويوسّع نطاق الاشتباكات، مما سيؤدي إلى انفلات الأوضاع بصورة قد يصبح معها صعباً جداً التحكم فيها وتطويقها».
وفي هذا السياق، أكد مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار تضامنه مع الجيش، لافتاً إلى أنه «لا يضع اللوم عليه، وإن أخطأ أحياناً في حفظ الأمن، لأنه آخر رصيد للوطن، وعلينا دعمه كي لا ينهار».
من جهته، أكد منسّق العلاقات السياسية في الحزب العربي الديموقراطي رفعت علي عيد أن «الطرف الآخر في باب التبانة لا يريد الحل، ويعمل على افتعال المشاكل»، وأنهم «عمدوا ليلاً إلى إحراق 25 بيتاً للعلويين في مناطقهم، كما أنهم رموا قنبلة على محطة للوقود»، لافتاً إلى أنهم «لا يتجاوبون مع الجيش، نظراً لتعدد مرجعياتهم وتباينها»، ومشيراً في المقابل إلى أنه «يوجد في منطقتنا أكثر من 50 شقّة تسكنها عائلات سُنّية، ولم يتعرض أحد لهم، بل على العكس يحاطون بالعناية ونوفّر لهم حاجاتهم ومستلزماتهم».
وقال عيد إنه يتضامن مع الجيش في حفظ الأمن، فهو «في نظرنا خطّ أحمر ويقف على الحياد، وعليه أن يكون حريصاً على نفسه أيضاً»، موضحاً أن العلويين «لا يريدون أن تتفاقم الحوادث»، وقال: «نحن ندفع فاتورة لا ذنب لنا فيها. فإن أرادوا أن يحاربوا حزب الله، فليذهبوا إلى الضاحية ويقاتلوه، وإن أرادوا أن يحاربوا سوريا، فليذهبوا إلى طرطوس فهي قريبة»، مشيراً إلى أن «لا أحد من جبل محسن يريد السيطرة على باب التبانة، ولا الطرف الآخر يريد السيطرة على الجبل».
ولم يفت عيد إعرابه عن «الانزعاج الكبير لعدم دعوة الطائفة العلوية إلى المشاركة في اللقاء الروحي الذي عقد في القصر الجمهوري»، وقال: «صُدمنا بموقف الرئيس ميشال سليمان، وكنا نأمل أن ينصفنا بدعوتنا».


باب الذهب

كان شارع سوريا، وهو الشارع الرئيسي وسط باب التبانة، يُعدّ حتى أواسط السبعينيات الشريان الاقتصادي في الشمال كله، مما دفع إلى تسميته «باب الذهب».
وكان الشارع، الذي يبلغ امتداده حوالى كيلومترين، محور اهتمام غالبيّة زوار المدينة وزبائنها من مختلف المناطق، ومحطّ اهتمام قطاعاتها الاقتصاديّة على تنوّعها، حتى بات ثراء أهالي المدينة وفقرهم يُقاسان بمدى وجودهم فيه.
لكن وضع الشارع اليوم انقلب رأساً على عقب، وتحوّل والمنطقة إلى عنوان للفقر والحرمان والإهمال، وأُلصقت بسكّانه تهم الإرهاب والخروج على القانون، وهم الذين يعانون وضعاً معيشيّاً واجتماعيّاً وخدماتيّاً متدنياً على كل المستويات.