نقولا ناصيفعندما يريد دبلوماسي أوروبي إرسال تقرير إلى وزارة خارجية بلاده لإطلاعها على ما يجري في لبنان، يومياً وأحياناً مرّتين أو ثلاثاً في الأسبوع تبعاً للأحداث، لا يترددّ في إبراز بعض ضجره مما يكتب عن المسلسل اللبناني الذي يستمر حلقة بعد أخرى دون نهاية. الأحداث لا تتغيّر كثيراً، والمواقف هي نفسها عند هذا الفريق أو ذاك. بعد أن يدوّن الأولى، ويعرض الآراء المتباعدة في الثانية، يخلص إلى تعليق واستنتاج بشأن ما طرأ بين تقرير وآخر. وهو لا يرى منذ أسابيع طويلة تغييراً أساسياً في «لعبة البلف» الدائرة بين الموالاة والمعارضة، وخصوصاً مذ أصبح لبنان بلا رئيس للجمهورية ودخل في فراغ دستوري.
وقد يكون أبرز ما يكتبه الدبلوماسي الأوروبي إلى عاصمته عن ترشيح قائد العماد ميشال سليمان أنه «مرشح توافقي في الانتظار».
قبل يومين كتب الدبلوماسي الأوروبي إلى دائرته المختصة في وزارة الخارجية، كما تحدّث في لقاء خاص، عن أربع إشارات متناقضة شهدها هو:
أولى الإشارات، مرور الذكرى الثالثة لانسحاب الجيش السوري من لبنان في 29 نيسان 2005، من غير أي مظاهر احتفالية تتصل بهذا الحدث المهم، ما خلا الاحتفال الذي كان قد نظمه حزب الكتائب والقوات اللبنانية في ساحة ساسين بالأشرفية. ومع أن اللبنانيين أكثر من أي شعب آخر متعلقون بالذكريات والأيام اللصيقة بالأحداث والرجال، المفرحة منها والمحزنة سواء بسواء، بغية إحيائها احتفالياً ـــــ وهي تتواتر بكثرة لدى الأفرقاء جميعاً بلا استثناء ــــــ لم يصدر من هؤلاء الأفرقاء أعداء سوريا وحلفائها، ولا من حكومة الرئيس السنيورة التي لا تفوّت في الغالب مناسبات مشابهة، أي ردّ فعل بارز في ذكرى انسحاب الجيش السوري من لبنان، رغم وفرة المواقف التي تدين تدخّل دمشق في الشؤون اللبنانية والاتهامات التي تساق إليها بشأن مسؤوليتها عن زعزعة الاستقرار في هذا البلد وتعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية.
ثانيتها، ما كُشف عن مخابرة هاتفية أجراها قائد الجيش المرشح التوافقي للرئاسة العماد ميشال سليمان بالرئيس السوري بشار الأسد في 29 نيسان، في يوم ذكرى انسحاب الجيش السوري من لبنان. وبحسب الدبلوماسي الأوروبي تكمن أهمية المكالمة الهاتفية في توقيتها لا في إجرائها، وهي الثالثة لسليمان منذ تموز الماضي، إلا أن أبرز ما فيها مضمونها سواء المتصل بشكر الأسد على تأكيد دعمه إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية في أسرع وقت ممكن وموقفه الإيجابي من المرشح التوافقي، أو المتصل بتأكيد تعاون الجيشين اللبناني والسوري رغم مغادرة الأخير لبنان، مع اعتقاد الدبلوماسي الأوروبي، وفق تقدير حكومته، أن دمشق لا تنظر إلى ترشيح قائد الجيش بجدّية، ولا تقاربه مرشحاً توافقياً بدليل رفضها كل المبادرات الأوروبية والعربية التي دُعيتْ إلى تأييدها لإنهاء الفراغ الدستوري في لبنان، والمساعدة على انتخاب المرشح التوافقي.
ثالثة الإشارات، الدعوة التي وجهها الأسد في 27 نيسان الفائت، في حديث إلى جريدة «الوطن» القطرية، إلى رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون لزيارة دمشق. وبمقدار ما أثار توقيت الدعوة استغراب الدبلوماسي الأوروبي، فاجأته سرعة ردّ الفعل الإيجابي لعون بترحيبه بها وإبداء استعداده لتلبيتها. وقد أخذت حكومته «في الاعتبار توجيه الدعوة والترحيب بها»، يضيف الدبلوماسي الأوروبي.
رابعتها، الاتصال الذي تلقّاه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة من الرئيس الأميركي جورج بوش يوم 29 نيسان ـــــ في ذكرى انسحاب الجيش السوري من لبنان أيضاً ـــــ مشيداً بالديموقراطية اللبنانية المكافحة، والذي وجده الدبلوماسي الأوروبي أشبه بـ«قبلة الموت» في هذا الظرف بالذات تحت وطأة الخلافات والانقسام الحاد بين قوى 14 آذار والمعارضة في كل ما يتصل بعرقلة التسوية الداخلية بدءاً بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولا يعدو هذا التأييد غير المشروط كونه أحد أسوأ مظاهر الدعم الذي يجعل المعارضة، ولا سيما حزب الله، تتلقّفه وتستخدمه في تحريك التناقضات الداخلية إلى أكثر من اتجاه.
بل يلاحظ الدبلوماسي الأوروبي أن كلاً من الإشارات الأربع هذه هو أقرب إلى «قبلة الموت»، إذ تمثّل أكثر من علامة مقلقة لمسار الأحداث ودفعها أكثر فأكثر نحو تعميق المأزق الدستوري والسياسي.
بيد أن الدبلوماسي الأوروبي يضيف، وهو يورد الإشارات المتناقضة تلك، إنه ختم تقريره إلى إدارته بقوله إن هذه تعبّر عن سياسة متبادلة بين طرفي النزاع اللبناني تقوم على التكاذب و«لعبة البلف» وفق تعبير استخدمه في تقريره، وهو «jeu de dupes». إذ يعتقد كل من الفريقين أنه يبلف الآخر في تبادله وإياه المناورات والتلاعب بأولويات التسوية والشروط المرافقة لها بغية استمرار تعطيلها، وفي ظنّه أنه يكسب على حساب ندّه، فإذا بكليهما يبلف الآخر ويخسران معاً.
تبعاً لذلك يُدرج بضع ملاحظات حيال السجال الدائر بين قوى 14 آذار والمعارضة على دعوة رئيس المجلس نبيه بري إلى طاولة حوار وطني قبل جلسة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية في 13 أيار، وأبرزها:
1 ـــــ أن مبادرة برّي للحوار تنطوي على التباس غير مبرّر هو ربطه انتخاب الرئيس الجديد بنتائج هذا الحوار والتوصّل إلى اتفاق حقيقي، مع معرفة برّي ـــــ الذي سيترأس هذا الحوار ـــــ أنه سيفقد دوره فيه ما إن يُنتخب الرئيس الجديد الذي تنتقل إليه إدارة الحوار بين الأفرقاء المتنازعين. لذا يبدو رئيس المجلس، في رأي الدبلوماسي الأوروبي، أنه يريد هو إنجاز الحلّ كاملاً، فيأتي انتخاب الرئيس أحد عناصره. الأمر الذي تنكره عليه الموالاة.
2 ـــ أن رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري يغالي في توقعه الحصول من رئيس المجلس على ضمان بتوجّه الغالبية والمعارضة معاً إلى جلسة انتخاب الرئيس في جلسة 13 أيار إذا لم يُفضِ الحوار إلى نتائج إيجابية. هذا الالتباس في موقف الحريري ينطوي على نظرة غير واقعية إلى موقف رئيس المجلس، ومن خلاله المعارضة، اللذين لن يوافقا على انتخاب رئيس لا يسبقه اتفاق سياسي مسبّق على ملفات لا شأن لها بانتخابات الرئاسة اللبنانية التي تظلّ أولوية غير مسبوقة.
3 ــــ في واقع الأمر عادت الموالاة والمعارضة إلى المشكلة نفسها التي أقفلت عليها عام 2007، وهي ربط انتخاب الرئيس بالاتفاق المسبّق، وتصلّب كل من الفريقين بموقفه الرافض أن يتزحزح عن شرطه هو ـــــ وأولويته هو ـــــ للحل، رغم المبادرة العربية التي صدرت في مطلع السنة الجديدة. مع ذلك لم تحمل المبادرة الفريقين على التسليم بالآلية التي اقترحتها للحل. والواضح، يقول الدبلوماسي الأوروبي، إن المبادرة العربية بانبثاقها أولاً من الجامعة العربية في كانون الثاني الماضي، ثم بحصولها على تأييد القمة العربية في دمشق في نهاية آذار، جاءت لتثبّت الالتباسات الراسخة في موقفي الموالاة والمعارضة عبر ربط انتخاب الرئيس ـــــ وإن هي أدرجت تنفيذه كخطوة أولى ـــــ بالبنود الأخرى للتسوية، أي التفاهم على حكومة الوحدة الوطنية وقانون الانتخاب. ورغم أن هذا الربط يعقّد الحل، حظيت المبادرة العربية بتأييد المجتمع الدولي، والأوروبي خصوصاً، كي تسهّل إخراج لبنان من نفق مأزقه الدستوري.
4 ــ عندما تجزم قوى 14 آذار بانتخابها رئيساً للجمهورية يوم 13 أيار، في ظلّ عجزها عن استخدام نصاب الأكثرية المطلقة للانتخاب، فهي بذلك تجازف بجدّيتها وسمعتها السياسية إن هي أخفقت في تنفيذ جزمها هذا. وليست هذه أولى مجازفاتها. جزمت بإسقاط الرئيس إميل لحود قبل انتهاء الولاية فلم يسقط، وبانتخاب مرشح من صفوفها صيف 2007 ففشلت، وباستخدام نصاب النصف الزائد واحداً مراراً لفرض إرادتها فتردّدت، وكذلك برفضها تعديل الدستور وترشيح قائد الجيش للرئاسة، وبإعلان سعيها إلى فتح أبواب مجلس النواب لانتخاب الرئيس، وتوسيع حكومة السنيورة وترميمها مطلع السنة الحالية فلم تفعل. وأخيراً برفضها مبادرة برّي للحوار. كل ذلك ينبىء في ظلّ توازن القوى القائم حالياً بعدم قدرة الموالاة، رغم إمساكها بالغالبية النيابية، على فرض خياراتها على المعارضة، أو الذهاب منفردة إلى حلّ الأزمة. وهي بذلك تضع صدقيتها مرة بعد أخرى على محك الإخفاق. الأمر الذي يعبّر عنه مجدّداً استعجال الحريري اتخاذ موقف من جلسة 13 أيار وجزمه بانتخاب الرئيس الجديد دون أن يكون متيقّناً من انعقاد جلسة لا يكتمل نصابها إلّا حضور الفريق الآخر.