«هوّي ما سقط ... متلو متل باقي الولاد»، جملة معهودة غالباً ما تفتتح قصص التسرّب المدرسي، إذ يتغيّر اسم البطل، أما النهاية فتبقى أيضاً مألوفة
سارة أنطون
استطاع خالد (17 عاماً) على مدى فترة ليست بقصيرة أن يتحدّى واقعه اليوميّ الحافل بالواجبين التعليمي والمهني، لينام مساءً ولو في ساعة متأخرة على وسادته قرب كتبه و«جاطه» الأحمر. غير أنّ النهاية لم تلبث أن أتت، فقد حوّل الوضع المادي وقلّة الوعي واقعه اليوم إلى الواجب المهني فقط.
كمثيلتها من ساعات اليد الطفولية الملوّنة، تشير ساعة خالد صباحاً إلى الموعد المدرسي المعتاد، ولدى عودته من المدرسة، تبهت ألوان الساعة لتتحوّل إلى إنذار للنزول إلى العمل، طنين ينزع عنه المريول المدرسي ويحوّل الكتب التي إلى «جاط» سمسمية وفستقية.
بين العلم والعمل فرق بسيط في التهجئة، ومجرّد ساعة استراحة استطاع خالد أن يفرضها في نمط الحياة الذي رسمه بأشواك الحاجة وسواعد الطموح. في أحضان المدرسة الابتدائية والمتوسطة في منطقة التبانة ـــ طرابلس، حصد التلميذ ـــ العامل نتائج جيّدة جداً أبعدت كلّ الشكّ عن أساتذته الذين كانوا يصدمون حين يلتقون تلميذهم «الشطّور» عند حافة الطرق، وحين يسمعون ذاك الصوت نفسه الواثق في الاستظهار والقراءة يكرّر: «سمسمية عبيدية، تفضّل، يلّي بيدوق بيعررررف!!».
لم يرَ خالد يوماً إحراجاً في حياته اليومية، فمعظم زملائه في المدرسة كانوا يعرفون أنّه يعمل، فيقول: «شعرت بالفخر بعملي حين كان الأساتذة يهنئونني على جهدي، وبأنني رجل لأنني أعمل». أما ردّة فعل الأساتذة فكانت متفهّمة إلى حدّ الاقتناع بوضع خالد، بعيداً من التدخل بمساعدة اجتماعية أو مادية.
«أدرس عند الفجر، لأنّني أكون منهكاً عند المساء، أما الفروض اليومية فكنت أقوم بها خلال الحصص المدرسية»، يضيف خالد الذي تحمّل على مدى سنوات المسؤولية المادية لدراسته، ومصاريف أخواته، كما أسهم في مساعدة أخيه الأكبر ليتزوّج.
وهنا يستدرك قائلاً: «كنتُ أفرح حين يسمح لي والدي بأن أعطي ما أجمعه في نهار معيّن لأخواتي البنات، كنت أعمل بنشاط أكبر في يوم كهذا». أما الاثنين فهو يوم استراحة أسبوعي استطاع الابن المسؤول أن يقنع والده به من المنظار التجاري لأنّ «الاثنين ما في سوق».
يبدأ المشوار اليومي عند منطقة الزاهرية، شارع المدارس، ثم التلّ بوتيرة سريعة قبل أن تقفل المكاتب حيث الطلب على الكريكري، وخلال المساء، ينتقل صاحب «الجاط» الأحمر إلى محيط «الكزدورة» أي شارع الميناء في المطاعم والمقاهي. وقد اختفى امتعاض أصحاب المطاعم من مجيء خالد بعدما لحظوا تواتر اسمه على ألسنة الزبائن الذين باتوا يصرّون أحياناً على أن يجالسهم ويسمعوا عن طموحه: «أريد أن أصبح طبيباً».
استهل خالد حديثه بـ«أفففف ذكرتيني بأيام المدرسة»، إذ لم يمهله الزمن حتى سنّ الرشد ليحوّل المدرسة إلى ذكرى يستحضرها التلميذ «الشطّور» أمام عمله الجديد الذي لا يخلو من الكريكري في محمصة صغيرة في الأسواق المتاخمة لطلعة الرفاعية، يجني منه 12 ألف ليرة يدفعها أخوه وربّ عمله مقابل دوام يومي كامل. في ذاك المحلّ العابق برائحة المكسّرات، يؤكد خالد أنّه لا يزال يحبّ القراءة والاطلاع، مشيراً إلى كدسة الجرائد القديمة خلفه، وهو ينوي أن يتابع دورة في اللغة الإنكليزية إذا وفّق بدوام ليلي.
عند بداية كلّ عام دراسي، كان الصراع يبدأ بين أشواك الحاجة وسواعد الطموح، بين الرغبة في التعلّم والحاجة التي ينادي بها الوالدان، وفي حين استطاع العلم أن يجاور العمل حتى شهادة البريفيه، أطفأ إلحاح الوالدين اندفاع خالد نحو التعلّم عند سنّ الخامسة عشرة. وفيما تسأله اليوم عن تلك السيرورة المضنية ونهايتها، تحاول أن تستقي منه لمحة، همسة، أو واحدة تنقم على والديه من دون أن تجد نتيجة ليكتفي بترداد: «كتّر خير اللّه».