لم تعد المظاهر المسلّحة تُشاهد علناً في الشوارع. قد تكون بيروت في الطريق إلى استعادة الدورة الاعتيادية للحياة. الطرقات تزدحم بالمارة والسيارات. المتاجر استأنفت نشاطها. مؤشرات إلى أن حياة طبيعية في الظاهر عادت لتأخذ مجراها، لكن واقعاً أبعد ما يكون عن الطبيعية يختفي خلف هذا المشهد اليومي
حسام كنفاني
قد تكون رحى الحرب والاشتباكات والتوترات قد توقفت عن الدوران في الشوارع. لكن حرباً أعتى تدور خلف الجدران، وقودها أمضى من الرصاص، تتغذى على حقد وكراهية تسلّلا إلى الأحياء والبيوت، وحتى العائلة الواحدة.
«التعايش» في بيروت قبل 7 أيار لم يعد نفسه بعد هذا التاريخ. قصص كثيرة تشهد على واقع مقزّز في طريقه إلى الانتشار في لبنان، إن لم يكن قد تفشّى وبات من الصعب لملمته. قصص لا توفر الأم وابنها والأخت وأختها والزوج وزوجته.
روابط الدم والمصاهرة ما عادت كافية لاحتواء «رفض الآخر»، الذي بات حالة لبنانية عامّة، فكيف لأية تسوية سياسيّة، مهما كانت مشرّفة، أن تعيد الأمور إلى نصابها؟

انقطاع التواصل

شاءت توجّهات غسّان الإيديولوجيّة أن تضعه وعائلته على طرفي نقيض في المشهد السياسي. لم يكن الاختلاف يفسد للودّ قضيّة في السابق، باستثناء بعض المجادلات الوديّة داخل العائلة، والتي كانت تنتهي عادة بالنكات على هذا الزعيم أو ذاك. وكان الطرفان يتقبّلان الأمور بروح رياضيّة لتنتهي السهرات على اتفاق «تسوية سياسيّة»، وأن الجميع مسؤول عما وصلت إليه البلاد. اتفاق يرضي الجميع ولا يعفي أي زعيم من المسؤوليّة، على اعتبار أن «الناس بدها تعيش».
هذا كان قبل 7 أيار. الوضع بعد هذا التاريخ لم يعد إلى ما كان عليه. بعد انحسار الاشتباكات في بيروت، لم يكن غسان، وهو «المعارض» القاطن في أحد أحياء بيروت السنّية، يجرؤ على الاتصال بعائلته للاطمئنان، ولا سيما أن معلومات وصلته أن الوالدة تعيش حال غضب ونقمة شديدين على المعارضة والمعارضين.
لم يستمع غسّان إلى نصائح طالبته بانتظار «هدوء الأجواء». يقول: «كان عليّ الاطمئنان إلى الحال الصحيّة والنفسيّة للوالد والوالدة».
رفع هاتفه وطلب الرقم، جاءه الصوت مخنوقاً من الطرف الآخر. «هل لا تزالين نائمة؟»، قال لأمه مداعباً. كان الرد صاعقاً: «لا، إنني أبكي على بيروت، هل يسعدك ذلك؟». لم يدر ماذا يردّ، بالتأكيد الأمر ليس مسليّاً ولم تكن النبرة لتسمح بمداعبة تخفّف من الوطأة. كانت الوالدة تتعاطى معه كمتهم، «ظننت للوهلة الأولى أني كنت المسؤول العسكري عن إدارة المعارك في بيروت، وأنني من أعطى أوامر إطلاق النار والتقدّم في
الأحياء».
ما كانت التبريرات السياسيّة والميدانية والحديث عن المقاومة وأهميتها لتجدي نفعاً في الحديث مع الأم المكلومة بمدينتها. كان الاستماع والتقبّل هو الحل. يقول: «لا أذكر أني تلفظت إلا بكلمات قليلة، كان همّي أن امتص الصدمة قدر المستطاع».
ويتابع: «كنت أريدها أن تفرّغ حال التوتر الذي تعيشه حتى لو كنت أنا المستهدف، وحتى لو كانت بعض العبارات غير مقبولة لو كانت الظروف طبيعية. لكن الظروف لم تكن طبيعية، وكان عليّ أن استمع وأصمت».
عاش غسّان حالاً مماثلة مع خالته أيضاً. ورغم علمانيته وإلحاده، إلا أن تهمته كانت «الوقوف إلى جانب الشيعة ضدّ السنّة». في لحظة ما، عادت به عقارب الساعة إلى الوراء، أعادوه إلى زمن الطوائف الذي انتفض عليه منذ أعوام. الصراع في نظر العائلة، وحتى غالبيّة الشارع البيروتي والسنّي، «طائفي ثم طائفي».
لا مكان للسياسة، إما أن تكون طائفيّاً أو تكون خارج المعادلة. اقتناع قد لا يكون وقفاً على شارع الموالاة، فحتى بعض شوارع المعارضة يتبنّى الشعار نفسه.

قطيعة أخويّة

السعار الطائفي المستشري لم يستثن الإخوة. سلوى وإيمان تتحدران من بيت بيروتي واحد. المصاهرة حوّلت الأختين إلى طائفتين مختلفتين.
سنوات طويلة لم يكن لهذا الاختلاف الطائفي أي معنى في العلاقة بين الطرفين. وحتى في ذروة الأزمة السياسية بين المعارضة والموالاة لم تكن لتؤثّر في الرابط الأخوي، وإن كانت الاثنتان تتجنّبان الخوض في نقاشات سياسيّة، ولا سيما أنهما تعلمان مناصرة كلٍّ منهما الشديدة لطرفين متناحرين. وبناءً على تجارب سابقة، فإن الخوض في النقاش كان يتضمّن صراخاً وشتائم، لكنه كان ينتهي بفنجان قهوة ونرجيلة وثرثرة حول المشاكل اليومية.
بعد حوادث السابع من أيار، انقطع التواصل بين الشقيقتين. حتى اليوم لم تتصل أي منهما للاطمئنان إلى الأخرى، رغم أن إحداهما تعيش في منطقة كانت مسرحاً لاشتباكات عنيفة.
سلوى تبرّر قطيعتها بالقول: «لا أريد أن أسمع نبرة التشفّي في صوتها، لا أطيق رؤيتها هي وزوجها». وتتابع: «أتذكّر النقاشات التي كانت تدور بيننا وأشعر بالغضب العارم».
حتى إنها تكاد ترسم صورة مفترضة لحال شقيقتها في لحظة الحديث معها، «أظن أنها تشعر اليوم بالنشوة، وتضحك ملء فمها».
حال إيمان لا تختلف عن حال شقيقتها، فهي تتجنّب الاتصال بسلوى: «لا أريد أن أسمع شتائم لن أسكت عنها». وتشعر في الوقت نفسه بشوق إلى شقيقتها وقلق عليها، حتى إنها تقوم باتصالات مع أطراف محايدين للتوسط وإيصال رسائل السلام والاطمئنان.

زوجيّات

اشتباكات الشوراع انتقلت إلى داخل المنازل. علاقات زوجيّة كثيرة حفلت بمشادات تطوّرت إلى قطيعة. حالة سهى لم تصل إلى هذا الحد، لكنّها لم تخل من توتّر. سهى امرأة شيعية متزوجة من سنّي وتقطن في وسط بيروتي. عاشت لفترة حالاً من الازدواجية بين انتمائها المذهبي ومحيطها. لم تحسم خياراتها السياسية خلال المرحلة السابقة، كانت تارة تؤيّد هذا الطرف وطوراً ذاك.
لكن ما يمكن تسميته «شعوراً بالنشوة» اعتراها بعد السابع من أيار. نشوة لم تستطع كبتها، رغم محاولتها مراعاة حال الإحباط العام في منطقة سكناها، وحتى لدى زوجها، الذي كان إلى الأمس القريب يستوعب تقلّبات زوجته السياسيّة. ولكن اليوم لم يعد الرأي الآخر مقبولاً، على الأقل في الوقت الحاضر.
سهى اليوم تبدو ثابتة على موقف واحد لا تتزحزح عنه: «لن أسكت على كلمة لا تعجبني بعد الآن».
وتتابع: «حتى في العمل، لن أسمح لأحد بالتعرّض إلى معتقداتي».
زوجها سليم، الذي ينتمي إلى عائلة بيروتية عريقة، لا يخفي حال الاستفزاز الذي تسبّبه له زوجته حاليّاً، حتى إنه يخشى عليها من المحيط إن هي جاهرت بما تقول في الشارع السنّي المحبط. ويضع سيناريو مفترضاً لعجزه عن منع الأذى عن زوجته، «لا أحد يقدر على ضبط انفعالات الناس حالياً».

صداقة عمر

سلام ولما، رحلة صداقة امتدت من اليوم الأوّل للمدرسة حتى التخرّج من الجامعة. لم يعكّرها الاختلاف المذهبي بينهما. صداقة الفتاتين تطورت إلى علاقات أسريّة وطيدة بدأت بالفتور مع الشرارة الأولى للخلاف السياسي.
سلام الشيعية العلمانية لم تكن لترى أن انتماءها مذهبي، حتى إنها لم تتبنّ يوماً رؤية المعارضة كاملة ولا الموالاة كاملة.
«لكل طرف بعض الحق في ما يقول»، حتى إنها كانت تتقبّل انتقادات أهل زوجها السنّي لطائفتها، التي «تصل في كثير من الأحيان إلى حد الإهانة»، ببسمة سخرية. كانت تسعى دائماً إلى إخراج نفسها من قوقعة الطائفة إلى رحابة فكريّة
أوسع.
الحوادث الأخيرة أعادت سلام، في نظر الآخرين، إلى سجن اللفظة المدوّنة على إخراج القيد، التي لم تكن يوماً تعني لها شيئاً. لا تكبت دمعتها حين تتحدّث عن علاقتها بلمى.
والاتصال الأخير الذي جرى بينهما بعد الاشتباكات «كان جافاً جدّاً، بدأته بعبارة كنّا متفقتين عليها، لكنها بادرتني بنبرة تمرّد». وتتابع: «هل أنا من كنت أطلق النار على منزلها في شارع الحمرا؟».
تدرك سلام أن علاقتهما لن تعود كما كانت، لكنها متأكدّة من أنها لن تصل إلى القطيعة. «كانت تريد أن تطلق العنان لكبتها، ومن واجبي كصديقة أن أتحمّل، وخاصة أنا أعرف أنني لست في الخانة التي وضعتني فيها».
هذه نماذج مصغّرة عما يحصل في لبنان. نماذج لنقاشات تدور في آلاف المنازل والعائلات المختلطة طائفيّاً، والتي قد تعطي فكرة عن نقاشات أشدّ خطورة تدور في المنازل والأحياء ذات اللون الواحد.