ريمون هنودعندما يتمّ التداول في الشؤون السياسية والاجتماعية في الوطن العربي، ويسأل المرء عن رأيه في موضوع ما، يبادر فوراً إلى الإجابة بعبارة أنا كسنّي أو أنا كشيعي أو أنا كمسيحي. لا يختلف عاقلان متنوّران في ما بينهما على أن هذا النهج المعتمد في الإجابة، إنما ينمّ عن تنشئة بيئة خاطئة أضحت مستديمة وأمست تمثّل آفة لا تعود باليسر على المجتمعات. وعلى الرغم من أن هذه الآفة منتشرة عموماً في العالم العربي، فإنها مستشرية بشكل خاص في وطن الأرز وبدرجة مروّعة، حتى إن طفلاً في سن الرابعة والخامسة من العمر يجيب عن أسئلة معينة وفقاً لمفهومه طبعاً، بالأسلوب الآنف الذكر نفسه، وما أخطأ المثل عندما قال: الولد سرّ أبيه، وما أخطأ أيضاً عندما قال: قل لي مَن تعاشر أقل لك مَن أنت. وحتماً فإن الأطفال في حداثتهم لا يعاشرون إلا ذويهم الوارثين تربية آبائهم وأجدادهم، وبالتالي، فإن التنشئة الطائفية تنتقل من الجد إلى الحفيد. وإذا ذهبوا إلى المدارس لتحصيل العلم والمعرفة فإنهم يصطدمون فوراً بحواجز المفردات والمصطلحات المذهبية على اعتبار أن المدارس العلمانية تكاد تكون معدومة في بلادنا، وإن وجد القليل منها، فإنها لا تروق لمزاج الأكثرية الساحقة، فضلاً عن أن الثقافة المعتمدة على العلم والمنطق والتحرر والتقدمية ونبذ شرور التزمّت الجحيمية، والمعوَّل عليها بناء مداميك المجتمع المدني وعدالته الاجتماعية المكوّنة لعموده الفقري وشريانه الحيوي وصمام أمانه، باتت بين مطرقة التوتاليتاريا المذهبية السائدة في جمهورية ديكتاتوريات الطوائف والخارج من أوكارها أصوات الترانيم الفئوية الشيطانية، وسندان حضارة «البوتوكس والسيليكون والنفخ والشد والشفط والتكبير والتصغير والزرع». لقد بات الوطن يرزح تحت نير ووطأة «فيديو كليب» يتيم فتّاك يعمل على إغراقه في مستنقع انعتاقي مدمّر، فيديو كليب تتحكم فيه مذهبية نيرونية مدعومة من جميع أشكال منشّطات «الطفنيس». لذا فإن العاقل المتنوّر في لبنان يستحوذ عليه الذهول ويغتبط فرحاً إذا ما سمع جواباً أنجبته «الصدفة» سواء أكان من برعم أم من يافع يقول: «أنا كلبناني، أنا كعربي، أنا كعلماني، أنا كديموقراطي». ولكن سرعان ما يعود الحزن والوجوم ليخيّما على محيّاه، عند اكتشافه أن السواد الأعظم المؤلف من فرق ومِلَلْ وقبائل وعشائر جميع تواريخ الشهر العاملة على المسارح والميادين اللبنانية، لسان حالها ينطق جملة واحدة بعيدة تمام البعد عن كل الخير والهناء على الوطن الجريح النازف وفق بورصة واحد ثابتة: «أنا أو لا أحد، مهما كان الثمن، زيتنا صافٍ وزيتهم عِكِرْ». كم أخطأ كثيرون عندما اعتقدوا بأن الجراح ستلتئم وتتبلسم بين النصارى والمسلمين، أو بين أبناء المذهب الواحد، إذا انسحبت القوات السورية من لبنان. الحق ليس على السوري أو السويسري أو السرلنكي أو الطليان، إنما الصورة جليّة كعين الشمس: «دود الخل منّو وفيه»، والخل ملوّث بدود المذهبية والزبائنية. فيا أيها المواطن، صيادك ماهر وبيّاعك شاطر، ولكي لا يضحي وجودك نادر، قاومهما وأبعد عنك هذه الكأس.