strong>الجماعة الإسلاميّة نموذج خاص للتوفيق بين المقاومة و«المصالحة»
تقارب بيروت مرحلة أخرى، بعد ما ألمّ بها من اشتباكات وما أصاب أبناءها من غل وغضب لم يجدا متنفساً بعد، ومن بين القوى الرئيسية في العاصمة ولدى أهل السنّة تقف الجماعة الإسلامية اليوم كأحد التشكيلات التي حافظت على مسافة من الأحداث من دون أن تنفصل عن جمهوره

فداء عيتاني
لم يكن ما أصاب أبناء بيروت وأهل السنّة في البلاد مجرد حدث عابر، بل كان لهم أشبه بزلزال. وقد سقطت غشاوة كانت تعمي أبصارهم أو تحيل كوابسيهم أحلاماً وردية في نظرة مريضة لواقع مر: توهموا أن سعد الحريري أقوى من والده رفيق الحريري، وأن وليد جنبلاط الذي استباح في الماضي مناطقهم وبيوتهم هو حليف وصديق صدوق، وأن حالهم بعد مقتل قائدهم وزعيمهم بدلها القائد الشاب سعد الحريري، الذي توسموا فيه قدرة على إدارة أبناء الطائفة من أقصى الجنوب في شبعا إلى أقصى الشمال في عكار، ومن البحر في بيروت إلى الحدود في مجدل عنجر.
إلا أن ساعات قليلة بددت الحلم، وعاد الكابوس الطويل الذي عاشوه في ثمانينيات القرن الماضي ليجثم فوق الصدور. إنها هزيمة حلّت بأبناء الطائفة وفقرائها، وبعض المواقع على شبكة الإنترنت دعت إلى المشاركة بختم القرآن ليفرج الله عن أهل السنة والجماعة الكرب الذي حل عليهم.
على عكس طوائف أخرى، ولا سيما الشيعة، فإن جمهور أهل السنة يفترقون عن قيادته، فهذه تعيش في قصور مسورة، وهم يعيشون بين سائر اللبنانيين في أحياء متواضعة ومتداخلة، وقيادتهم تجني المكاسب السياسية والمالية وهم يستمرون في انتظار تقديمات وخدمات باتت متوافرة لغيرهم دون حساب. قيادة السنّة تأكل الحصرم وهم دائماً يضرسون، وحين ساق الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله مثلاً عن بقائه تحت القصف في حرب تموز في الضاحية الجنوبية لم يدر في خلده أن قادة السنة لم يعيشوا يوماً ملاصقين لقواعدهم، وأن تحالفه مع الطائفة خلال مرحلة التحالف الرباعي الانتخابي أفاد زعامات السنة الذين فصلوا قمصاناً على قياسهم وعلى قياس طوائف أخرى في الشمال وبيروت، وحين هاجم مقاتلو المعارضة مناطق المستقبل في بيروت فإنما أصابوا أبناء الطائفة الفقراء في بيروت والذين استُقدموا من عكار، ومرة أخرى دفع الفقراء وأبناء الطائفة البسطاء ثمن غضب الشيعة.
تفترق القيادة السنية عن قواعدها، وذلك للجيل الثاني، حيث كان أحد أبناء الزعماء البيارتة ينصح للجيل الأول من زعامة الحريري، أي الشهيد رفيق الحريري، بأن يفتح باب قصره، وأن يضع أبواباً ذات قضبان للقصر تسمح للمواطنين العابرين قربه برؤية ما في داخله، والشعور بالتواصل مع قائده، إلا أن ذلك لم يحصل. ومع الجيل الثاني أصبح حتى المرور أمام القصر مغامرة محفوفة بالأخطار، وباتت منطقة القصر مرّبعاً أمنياً، قبل أن تحولها الاشتباكات الأخيرة إلى منطقة عسكرية وقلعة تعج بالجنود من كل الأصناف.
يجلس أحد كبار الأمنيين في مكتبه، ويتحدث عن ضرورة إعادة هيكلة تيار المستقبل، وعن ضرورة تغيير طاقم المستشارين أو على الأقل قسم منه، أولئك الذين لم يسدوا النصح إلى سيدهم كما يجب، وهو يقول أمانة إنه شخصياً ممن نصحوا بعدم اعتماد القرارين اللذين أديا إلى انفجار الأرض تحت أقدام الجميع. كما أنه من الذين يصرون على عدم التعامل مع القوى الأمنية بصفتها قوى محاربة، بينما هي قوى شرطة تمتلك جهاز استخبارات محلياً. إلا أن المستشارين يملكون أفكاراً ومصالح أخرىالجماعة الإسلامية لا تعتصم بالصمت حالياً، فكبيرها الشيخ فيصل مولوي يعبِّر عما يراه في بيانات موقوتة، كما تفعل الجماعة في بياناتها وخاصة البيان الذي وزّع أمس أمام المساجد، بينما انتشرت ملصقات في شوارع بيروت تحمل مجموعة من الرسائل السياسية إلى المقاومة، ولكنها أولاً تعبِّر عن رأي السكان، وتنفّس الاحتقان المكبوت، ليخرج الخطاب الحاد من الأذهان ويمكن بعده إعادة الأمور إلى أجواء أكثر هدوءاً. يرفض عدد من المسؤولين في الجماعة الحديث المفتوح أمام وسائل الإعلام. ثمة الكثير من التعب في وجوههم، وخشيتهم من الظهور الإعلامي قد تكون مبررة، وخاصة مع تأزم الأحوال السياسية والنقمة الشعبية العارمة، التي عاد كوادر الجماعة إلى التأثر والتأثير بها إيجابياً، هي مناسبة حزينة ربما لاستئناف النقاش الجدي مع حركة الإسلام المعتدل والجهادي التي أصبحت عليها الجماعة.
«إذا كان المشهد السياسي اللبناني هو ما نراه على الشاشات والخطاب هو ذاك الذي نسمعه (من هذا أو ذاك من الشخصيات السياسية) فربما الأفضل أن نغادر هذه البلاد إلى بلاد الله الواسعة»، يقول أحد المسؤولين من الصف الأول في الجماعة الإسلامية. ويتحدث المسؤول عن منطقة تضم خليطاً من الشيعة والسنة والدروز، ومنازل لزعماء تاريخيين في ببيروت، فيقول إن «ما هدم خلال يومين لا يمكن إعادة بنائه في أيام قليلة»، وخاصة أن ما تعرض له الناس كان قاسياً جداً، بغض النظر عمن أتى، وهو يصر على أن ما قام به حزب الله في بعض المناطق كان أسوأ مما قامت به حركة امل.
الجماعة التي طالما كانت تختلف مع حزب الله حين يصل النقاش إلى البنود المحلية اللبنانية، التي كانت المعارضة تتهمها بالالتحاق بالحريرية، بينما تدفع هي التهمة عن نفسها بالتأكيد على وقوفها إلى جانب أبناء طائفتها، هذه الجماعة لا يمكنها اليوم الابتعاد عن أبناء المناطق السنية الفقيرة، الذين أُصيبوا في الصميم، إلا أنها تبدو أبعد عن الحريرية مما كانت عليه بالأمس حين شاركت رسمياً في احتفالات الموالاة في الوسط التجاري لمناسبة 14 شباط.
إلا أن ما يؤكده المسؤول في الجماعة هو أنها لم تبدل مواقفها، ولم تدر ظهرها في يوم من الأيام للمقاومة، ولكن لا يمكن مطالبتها بالالتحاق بأي طرف.
ولا يخفي المسؤول حزنه لما أصاب البلاد، وهو لا يزال يعتقد أن في الإمكان دمل الجروح، والقيام بما يلزم على هذا المستوى بالتنسيق مع حزب الله إن هو تجاوب مع التنسيق، وأن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً. أما ما أصاب أبناء الطائفة من قيادتها نفسها فذلك حديث آخر.
وإذ يشير المسؤول إلى ضرورة الكتابة بوجهة تفيد الوحدة الإسلامية في هذه الظروف الخاصة، فإن هناك من يخبرك رأياً واضحاً في زعامة سنية لا تشبه الزعامات، «في الماضي القريب كان رفيق الحريري محاطاً بطاقم من المستشارين، بعضهم سيئ والبعض الآخر جيد، إلا أنه في النهاية كان هو صاحب القرار، ولكن اليوم مع سعد الحريري، ومن حوله من مستشارين، فإنه غير قادر على اتخاذ قرار، كما أن هناك جهات تتخذ القرار له وعنه».
هذا الكلام يصدر من شخصيات سنّية، تضيف أن تيار المستقبل قد ضُرب وفُكّك، ولكنه اليوم يحسن لعب دور الضحية، ما يسمح له بإعادة تجميع القواعد حوله، وأن سياسة الضحية التي تمت مهاجمتها في عقر دارها وحصارها في منازلها قد تكون أفضل طريقة لتعويض ما فُقد في الاشتباكات. وإن كان السنة يعلمون أن من يقودهم زعامة لا تملك القرار، فهم في المقابل لا يملكون خيارات بديلة. وإن كان ثمة من يبدع في تعبئة الفراغ، «خذ مثلاً المفتي أسامة الرفاعي وخالد ضاهر، اللذين لا شك بأنهما مرموقان، بغض النظر عن اتجاههما، وهما يجمعان حولهما اليوم حالة تقوم على بقايا تيار المستقبل وشتاته».
المسؤول في الجماعة الإسلامية، ورغم التعب والحزن الواضحين على محياه، يقول كلاماً كريماً عن أهل السنّة: «نحن لا نتصرف في لبنان بصفتنا طائفة» يقول، ناسفاً دون أن يهتم مقولات لبننة السنة وإعادتهم الى الكيانية، ويضيف: «نحن نتصرف كأبناء هذه المنطقة العربية الإسلامية، وكوحدويين إسلاميين، ولذلك فنحن ننسى سريعاً الإساءات»، مشيراً إلى منطلقات تجاوز الحروب اللبنانية والتغاضي عن ماضيها، وانفتاح العاصمة أمام الجميع في كل المراحل، وهو أمر ناتج من انتماء سني يتجاوز البعد الكياني.
وانطلاقاً من رؤيته هذه، يستبعد المسؤول أي دور جدي للقاعدة في لبنان، «فهذا التنظيم لم ينجح في التجارب التي قام بها سابقاً، من تجربة الضنية إلى تجربة «فتح الإسلام»، ويمكن قوى أخرى أن تحل مكانه في لبنان، من الحريري الذي يحاول استنهاض وضعه إلى المفتي أسامة الرفاعي».
رغم انفتاحها على الحوار، وتواصلها مع حزب الله، ولو بالحد الأدنى، لا يبدو أن قيادة الجماعة تعلق كبير أمل على حوار سيعقد في الدوحة، ويفترض فيه إنتاج حل للأزمة، ويختصر المسؤول في الجماعة ما يحصل بـ«طق الحنك».


بيان

حماية المقاومة
أصدرت الجماعة الإسلامية بياناً وزّع على المساجد بعد صلاة الجمعة وجاء فيه:
أولاً: كان قرارا مجلس الوزراء متسرعين نصاً وتوقيتاً، وحسناً فعلت الحكومة بالتراجع عن هذا الخطأ. ثانياً: إن الرد على قراري الحكومة باقتحام شوارع بيروت وغيرها لا يمكن أن يكون مبرّراً، ولا يمكن أن يندرج تحت شعار حماية المقاومة، فحماية المقاومة لا تكون بترويع الآمنين وإغلاق وسائل الإعلام وغيرها من الممارسات، وبالتالي فإن أهل بيروت ينتظرون من المقاومة الاعتراف بخطأ الممارسات التي وقعت، حتى تستعيد التفاف الناس حولها. ثالثاً: إن قرار تعليق مظاهر العصيان المدني يعتبر خطوة على طريق تفريج الأوضاع، لكننا نؤكد أن الاعتصام في وسط بيروت هو مظهر من مظاهر العصيان المدني، وبالتالي ينبغي أن يكون مشمولاً بالقرار. رابعاً: آن الأوان للفرقاء أن يقروا بأنه لا حل للأزمة إلا بعودة الثقة المتبادلة من خلال حوار غير مشروط، فحماية المقاومة لا تكون بالقهر وإنما بالتفاف اللبنانيين حولها وتبنّيهم لها. خامساً: كانت بيروت ولا تزال رمزاً لمقاومة المشروع الصهيوني الغاصب، وبالتالي فإننا ندعو أهل بيروت إلى التسامي على الجراح.