أنسي الحاجاحكِ لي قصّة تُلهيني. أيّ شيء. ما أظلم هذا الجوّ!
لستُ خائفاً. ممَّ أخاف؟ الرصاصة أسرع من الموت. لا، أنا مصابٌ باحتقار الذات وفقدان الهويّة. سمعتُ ميشال سليمان وسمعت حسن نصر الله وسمعت فؤاد السنيورة فتغرّبت ثلاث مرّات. الأول بعينيه الحزينتين يَقْطر أسفاً. الثاني بصوته المجلجل يُشيع العواصف. الثالث بتهذيبه المبتسم يُحيّرك في أيّ بلد أنت. ما المشترك بين هؤلاء الرؤساء؟ (لا، ليس خطأً لغويّاً). لا شيء. ثلاثة رؤساء (لا، بالتأكيد، ليس خطأً لغويّاً) لكلّ منهم مناخه وناسه، ولا يجمع بين هؤلاء الناس رابط الدولة ولا رباط الوطن، بل تتقاسمهم هواجس القلق من البقاء والشوق إلى الهجرة أو عذاب العجز عنها. ناس، مع هذا، جاهزون لملء الفراغات. فراغ الانتساب، فراغ الحشد، فراغ الدم. فراغات تُؤلّف لبنان واللبنانيين. فراغات مُزيَّحة بأقلام الدُول، بأسنان الدول. فراغات مملوءة بأجساد تسكن قرى، مدناً، ضواحي، ويسكنها روح التشلُّع، تتشظّى بلا نهاية، تهيم كالوطاويط في النهار، تُوعَد بحقوقها كأن الحقوق صَدَقَة، توعد بالدولة كأن الدولة وعد، توعد بثواب واحد على كل مئة عقاب، أجساد هَجَرها كسل المتعة، عَسَلُ المَلَل الحلال، أجساد لم تعد سوى حمّالات أرواح مملوكة.


ثلاثة رؤساء يتبادلون مشاعر الانقهار بعضهم من بعض، وناسهم حواليهم ركّاب المراكب التي تتقاذفها الأمواج، بعضهم فوق بعض، وبين الدَّور والدور يقع بعضٌ منهم بين أشداق البحر.
ثلاثة، وسواهم من الذين كانوا أو الذين سيصبحون رؤساء، أو الذين هم بمثابتهم. وناسهم الذين رفض معظمهم الحرب قبل أيّام، بين مَن سلّم سلاحه ومَن احتفظ به ورفض استعماله. صار ثلاثة أرباع اللبنانيين، وللّه الحمد، ريمون إده. وعيٌ تأخّر ثلاثة وثلاثين عاماً. عمر المسيح. رقمٌ طَلْسَم. أو هو صدفة مثل حياتنا، على أنَّ الصدف أيضاً طلاسم.
ثلاثة أرباع اللبنانيين الذين حاربوا عام 1975 وما بعده رفضوا الدخول في الحرب هذه المرّة. البعض يقول بل أكثر من هذه النسبة. البعض يقول: لا تجرّبوهم مرّة ثانية. ونحن منهم. لذلك نناشد المسلَّح أن لا يدفع الأعزل أو «المسلّح الخفيف» دفعاً إلى التسلّح.
التباهي بالقوّة يستفزّ ولو كانت قوّة سلاح المقاومة. وسلاح المقاومة بات جانب منه، وإن عَبْر إيقاعه في الفخّ، سلاحاً داخليّاً. أراد وليد جنبلاط في الأحداث الأخيرة أن يتشبّه بغاندي. المرتابون به لا يعترفون له بذلك، بل على عادتهم يرون مواقفه مناورة ومراوغة. قد لا تكون طاهرة ولكنها أثمرت حَقْناً للدماء. الحريري وتيّاره كذلك، رغم بعض «التجاوزات». سمير جعجع أيضاً، وبدون أيّة غلطة. ماضي الحريري ماضٍ سلمي فلا جديد عليه، ولكن سلميّة جنبلاط وجعجع مدهشة وتستحق الحضانة لكي يواصلاها. واستفزازهما إلى غير ذلك ستقع مسؤوليته كاملة على الجهة المستفِزّة. ولا نريد اختباءً وراء الطوابير الخامسة، فلا طوابير تتجرّأ بدون موافقة أهل البيت حين يصبح حجمهم هو هذا.


وفي معرض كلام القهر، وعلى عادتنا المضحكة المبكية في إقامة المعادلات استظلالاً للجوّ الفولكلوري العام، لا بدّ من التوقّف مرّة جديدة أمام مقهور من نوع آخر، مقهور دائم منذ أواخر القرن الماضي، هو الجنرال ميشال عون. لم أصدّق ابتسامته وهو يترأس أحد اجتماعات كتلته بعد انتخاب الجنرال سليمان. كأنها ابتسامة من القلب. هذا الرجل، بصرف النظر عن توتّره الذي يكبسك في توجّس دائم وترقّب انفجارٍ ما، هو أكثر مَن كان يستحق الرئاسة.
هنيئاً لسليمان، ولكن عون كان يستحقّها لا لأنّه يشتهيها بشبق لا يتوافر للآخرين، بل لأنه، بعدما تراكمت جبال التحدّيات ضدّه وألوف الكامنين له يتربّصون ليشمتوا به وينقضّوا عليه ساعة يكبو، كان مجبراً أن يفعل شيئاً. إن شهوةً كهذه الشهوة المُطْلَقة للسلطة من المستحيل أن لا تنطوي، عند شخصيّة مركّبة كشخصية عون، على مشروع إصلاحي يُحيي شيئاً ما، في الإدارة، في المجتمع السياسي، في مفهوم الدولة، ربّما في العلائق بين الطوائف. الأمل أن ينسى عون جرح الكرسي بفعل انتصار على الذات يفاجئ محيطه القريب أوّلاً، وأن يُجيّر طاقاته صدْقاً إلى الحكم القائم، منكراً ذاته حيث النكران لا يضيع وحيث الذات تكبر بثمارها وتضحياتها لتغدو في حجم خلاص شعب.


ثلاثة كلٌّ في مناخ.
بالإمكان أن يودي بنا هذا إلى مزيد من التفسّخ. مثلما بالإمكان أن يُبنى عليه واقعيّاً فنقول: هذا هو لبنان، لنأخذ تناقضاته على سبيل التنوّع والتنوّع على سبيل الترافُد والإخصاب. ودعنا لا نعمل من قضية ولاية الفقيه معضلة نعبّئ النفوس بسببها. دعنا لا نفهم منها غير معنى الولاء الروحي ولا نستعجل إلى المضاعفات السياسيّة. طبعاً لا أحد يريد للبنان تبعيّة لإيران ولا لغيرها، ولا يكفي تطمين نصر الله إلى حكمة ولاية الفقيه وتأييدها للبنان التعدّد والتنوّع حتى تهدأ النفوس. المهمّ، في المبدأ وفي التطبيق، أن لا تكون جهة جبّارة كـ«حزب الله» على تعاهد مع جهة خارجيّة ولو صديقة يُلزمها ما يتعارض مع الصالح اللبناني العام، أو يُرْغم المجتمع اللبناني إرغاماً على شيء، أو يضعه بالترهيب أمام أمور واقعة. هذا هو المأمول. وهذا أضعف الإيمان. وهو ما يجب أن يعلنه «حزب الله» على رؤوس الأشهاد قطعاً لدابر الفتنة التي لم ينقطع دابرها بعد.


نتمنّاها صيفيّة صاخبة بالفرح،
وفي انتظارها، وعلى رجائها، احكِ لي قصّة تُلْهيني. أي شيء. ما أَظْلَم هذا الجوّ!
لستُ خائفاً. الرصاصة أسرع من الموت. لا، أنا مصابٌ باحتقار الذات وفقدان الهُويّة. هذا البلد الذي ودّعتُه بمقالٍ في حرب السنتين، لماذا لا يزال يسكنني؟
بلد عجيب، يسكنك أكثر من روحك، بلد رائع، لا نستطيع أن نتركه، لا يريد أن يتركنا، ولا نستطيع أن نعيش فيه!
بربّكَ احكِ لي قصّة، قصّة لا أفيق من خَدَرها!...