العسكر يصلون إلى الحكم إثر أزمات جنبلاطيّة في اتّجاهات مختلفةيشبه أيار 2008 نظيره الخمسيني كثيراً. فثورة أيار 1958 ضد الرئيس شمعون جاءت لتلفت السلطة إلى وجود معارضة لا يستهان بها ترفض الالتحاق بالمشروع الأميركي. كذلك فعلت حربنا الصغيرة الأخيرة، إذ نزلت المعارضة إلى الشارع لتأخذ «حقها بيدها»
ديما شريف
اندلعت الشرارة في السادس من أيار، واتّسعت في اليوم التالي إثر اغتيال الصحافي نسيب المتني، ولم يلبث الإضراب العام أن لف البلاد بدعوة من المعارضة. انتشرت التظاهرات في الأراضي اللبنانية كلها، وظهرت المتاريس في بيروت. سيطر الثوار والمحتجون على البسطة، المصيطبة والطريق الجديدة، فيما حاولت القوات التابعة لكمال جنبلاط السيطرة على طريق بيروت ـــــ دمشق، وهجمت على مطار بيروت الدولي لاحتلاله، ولكن الجيش قطع عليها الطريق يسانده مسلحون من الحزب السوري القومي الاجتماعي وآخرون تابعون لأرسلان خصم جنبلاط السياسي. رفض الجيش سحق «الثورة» لضعف تجهيزاته وطبيعته الطائفية، ما قد يهدد تماسكه الداخلي، وفضل العمل على احتوائها.
هذا ما حصل في أيار 1958 عندما ثارت المعارضة في وجه الرئيس شمعون. ويشبه إلى حد كبير ما حصل بين 7 و12 أيار الحالي عندما ثارت المعارضة على حكومة تعتبرها غير شرعية منذ ما يزيد على ثمانية عشر شهراً. فالحرب الباردة اللبنانية الدائرة منذ ما يقارب ثلاث سنوات تمخضت عن ثورة سريعة استطاعت في خمسة أيام تحقيق ما لم تستطع فعله بعد أخذ ورد ومراوحة طوال أشهر طويلة.
تختلف الثورتان في التحالفات، إذ إن خمسينيات القرن الماضي دفعت السنّة إلى داخل النضال العروبي في مواجهة المشروع الأميركي، فشكلت القوى السنية الرئيسية في البلاد مع كمال جنبلاط نواة حركة المعارضة، إضافة إلى القوة الثالثة ذات الأغلبية المسيحية التي ضمت سياسيين مثل هنري فرعون، شارل حلو وجورج نقاش. كما وقفت الكلتة الوطنية ضد مشاريع شمعون. وقتها كان الحزب السوري القومي الاجتماعي يقف إلى جانب السلطة، إضافة إلى أنصار مجيد أرسلان حليف شمعون.
كثيرة هي أوجه التشابه بين أيار الـ 58 ونظيره في الـ 2008، عدا أن الاشتباكات وقعت بفرق يوم واحد. ففي الـ 58 كان الظرف السياسي مؤهلاً لثورة داخلياً وخارجياً. فكانت الولايات المتحدة تحل مكان القوى الاستعمارية التقليدية في المنطقة وتحاول مجابهة انتشار الشيوعية فيها عبر أحلاف عسكرية مع الطبقات الحاكمة. فيما اليوم تحاول نشر الديموقراطية ومحاربة الإرهاب الإسلامي الذي حل مكان الشيوعية كعدو «الحرية» الأول.
كان شمعون قد برز أمام الإدارة الأميركية كحل لمواجهة قومية عبد الناصر، فقررت دعم السلطات اللبنانية بعدما حدد وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون فوستر دالاس، لبنان مع السعودية وإسرائيل كمواقع أميركية ينبغي حمايتها. ولم يأت عام 1954 حتى كان الرئيس شمعون قد سمح للجيش الأميركي باستخدام الأجواء اللبنانية لطلعات سلاح جوه الاستكشافية. ورغم عدم انضمام لبنان إلى حلف بغداد، إلا أنه كان مؤيداً له.
وما زاد الطين بلة هو رفض لبنان قطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا وبريطانيا إثر العدوان الثلاثي، وفي آذار 1957 ربط شمعون لبنان رسمياً بمبدأ أيزنهاور. وبذلك استطاع جمع نسبة كبيرة من اللبنانيين ضده من البطريرك الماروني المعوشي إلى كمال جنبلاط. وكان السبب المباشر لثورة الـ 58 هو عدم نفي شمعون خبر نيته تجديد ولايته، ما جعل شخصيات معارضة تشكل تجمعاً مناهضاً له في آذار 58.
وجاءت شرارة الانتفاضة في 7 أيار عند اغتيال صاحب «التلغراف» الصحافي نسيب المتني المعارض للرئيس، فعمت التظاهرات لبنان في اليوم التالي وقطعت الطرقات وأعلنت الثورة على النظام. طلب وزير الخارجية آنذاك شارل مالك رسمياً من الولايات المتحدة التدخل العسكري لرد هجوم المعارضة عن العاصمة. وهذا ما حصل. بما يذكر بمطلب رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع تدخل قوات ردع عربية لإنقاذ بيروت من الهجوم الأخير عليها.
ولا يمكن إنكار المصلحة الأميركية والإسرائيلية في اتخاذ الحكومة اللبنانية قرارها إثر اجتماع ماراتوني لمجلس الوزراء برفض شبكة اتصالات حزب الله التي تعد جزءاً أساسياً من ماكينته الحربية، واعتبارها غير شرعية. وكان تحرك الاتحاد العمالي العام مقرراً في السابع من أيار، فاستغلت المعارضة ذلك ونزلت قاطعة الطرق في العاصمة وعن مطارها.
كانت النتيجة واحدة، إذ جاء العسكر إلى الحكم في توافق كبير، فأضحى قائد الجيش عام 1958 اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بعد خمسة أشهر من اندلاع الثورة، إثر اتفاق بين الولايات المتحدة ومصر. إذ كان الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور يفضل وصول عسكري إلى الرئاسة، ولم يمانع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. فأنهت «عملية الوطواط الأزرق» التي نفذتها قوات المارينز الأميركية في منتصف تموز، ثورة المعارضة، وحملت شهاب إلى الكرسي الرئاسي مكان شمعون الذي خرج بخفي حنين، فيما جاء ميشال سليمان رئيساً في 25 أيار 2008 نتيجة مؤتمر الدوحة الذي أنهى ما سمته الموالاة «انقلاب حزب الله» بعد انتظار ستة أشهر لحصول التوافق القسري على شخصه.
يتكرر التاريخ اللبناني، ويبرع في إعادة إنتاج أزماته كل بضعة عقود. فأزمة الـ58 لم تكن الأولى، وحرب الـ2008 الصغيرة لن تكون الأخيرة في سلسلة مواجهات بين القوى الطائفية والطبقية في كيان أُجبر قاطنوه على تحقيق اندماج سياسي واجتماعي لم يحصل، فيما فضّل معظمهم إجراء تكيف مؤقت مع الوضع الحالي بانتظار تقسيم ما أو فيديرالية تحفظ لهم هوياتهم الخاصة.


السنّة والعروبة

كان سنّة لبنان في ثورة أيار الـ 58 قد انحازوا إلى الخيار القومي العروبي. وشكلت الشخصيات السنية الأبرز في البلاد كصائب سلام ورشيد كرامي عماد المعارضة إلى جانب كمال جنبلاط.
وعانى رئيس الجمهورية كميل شمعون من صعوبات جمة لإضفاء الشرعية على حكمه، وذلك منذ بداية 1958 وحتى وصول اللواء شهاب إلى الرئاسة. فقد استقالت الحكومة التي كان يرأسها سامي الصلح في الرابع عشر من نيسان من ذلك العام، ولكن أعاد شمعون تكليف الصلح تشكيل وزارة أخرى استمرت حتى نهاية العهد في أيلول. وكانت هذه الوزارة الثانية عشرة في ست سنوات قضاها شمعون رئيساً، ليتغير في عهده أكبر عدد من الوزارات، لم يسبقه فيها سوى عهد بشارة الخوري الذي امتد تسع سنين وتغيرت فيه خمس عشرة وزارة.