كيف انتهت الهدنة بين البلدين وضاعت نقاط الالتقاء التي جسّدها رفيق الحريري؟عفيف ديابتاريخ السجال السعودي ــ السوري في لبنان لم تكن العلاقة السعودية ــ السورية يوماً سليمة، وإن مرت بفترات غزل وهدوء. فالعلاقة التي كانت تستتر بورقة توت سقطت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وأُطلق العنان للخلاف بين النظامين على أرض لبنان الذي أصبح رهينة هذا الصراع وساحة لتصفية الحسابات.
وجدت العلاقة الملتبسة بين دمشق والرياض، منذ زمن طويل، في لبنان متنفساً لإدارة الصراع السياسي بأدوات لبنانية، ترجم ذلك في أكثر من مرة ومحطة بمواجهات عسكرية وأمنية خلال الحرب «الأهلية» اللبنانية. فرغم فترات الهدوء الكبيرة التي كانت تخيم على التفاهم السعودي ـ السوري في شأن لبنان وأزماته منذ اندلاع الحرب في عام 1975، بقيت دمشق ترفض التدخل السعودي في لبنان إلا عبر بوابتها، ونجحت بعد اتفاق الطائف 1989 في منع السعودية، ومعها كل العرب، من التدخل في إدارتها للملف اللبناني الذي بقي جمراً تحت الرماد في العلاقة مع السعودية، إلى أن خرج الحريق إلى العلن بعد التمديد للرئيس إميل لحود الذي كانت تعارضه الرياض، واغتيال الرئيس رفيق الحريري، إلى أن أخذ منحىً تصاعدياً بعدما رأى الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز وصف الرئيس بشار الأسد لبعض القادة العرب بأنهم أنصاف رجال مسّاً به شخصياً.
ويقول متابعون للعلاقات السعودية ـ السورية إن التنسيق بين البلدين في شتى المجالات والمواقف أسبغ هدوءاً على العلاقة استمر أكثر من ثلاثة عقود رغم التباين في الكثير من الأمور، و«لكن بقي لبنان هو نقطة الخلاف الأساسية، إذ كانت ترسل عبر أزماته الرسائل المتبادلة أو الاعتراضية على هذا الموقف أو ذاك».
أزمات لبنان كانت دوماً محط تشاور بين دمشق والرياض للوصول إلى حل يرضي الجميع ويرضيهما أولاً وأخيراً. ولكن بعد غياب الرئيس حافظ الأسد، الذي كان يتعامل بحذق مع الحساسية السعودية ويدرك أهمية التواصل مع الرياض في ما يتعلق بقضايا المنطقة، ووراثة بشار للسلطة، تعرضت العلاقة لانتكاسات شديدة، كان لبنان سببها. فالخلاف بين البلدين على ملفات العراق وفلسطين وإيران وغيرها من القضايا لم تؤد إلى توتُّر في العلاقة، بينما الخلاف حوّل لبنان كان هو الصاعق الذي فجر العلاقة، وتحديداً بعد اغتيال الحريري الذي ترى الرياض أن قضيته مركزية بالنسبة إليها، وجاءت لاحقاً حرب تموز الإسرائيلية على لبنان صيف 2006 لترفع حدة التوتر الذي انحصر الآن بالاستحقاق الرئاسي من دون تجاهل المحكمة الدولية التي تقلق دمشق.
هل الصراع السعودي ـ السوري على أرض لبنان ينحصر في هذه الملفات، وهل هو جديد أم أنه صراع قديم متجدد؟
يقول سياسي لبناني مقرب من «المناخ السعودي» إن العلاقات السورية ـ السعودية ظلت هادئة، حتى انفجرت الحرب في لبنان عام 1975 فكان للسعودية الدور البارز لوقف هذا الاقتتال الذي «وجدت فيه سوريا تهديداً لأمنها ولا يحق لعرب غيرها التدخل ما لم يحصل التفاهم معها». ويضيف أن «الموقف السوري هذا أحدث في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية امتعاضاً وسوء فهم بين البلدين انتهى بأن سلّمت الرياض بوجهة نظر الرئيس حافظ الأسد وشرّعت وجود جيشه في لبنان من خلال قوات الردع العربية بعد القمة المصغرة في الرياض عام 1976 وتوجتها بقمة موسعة في القاهرة، حيث وقفت السعودية إلى جانب سوريا رغم الاعتراض المصري يومذاك».
ويرى أن الدور السعودي في لبنان و«تصادمه» في أحيان كثيرة مع أدوار عربية أخرى، ولا سيما مع سوريا أحدث خلافات بين البلدين ترجمت في لبنان سياسياً وأمنيا خلال فترة الحرب الأهلية، فلم تطل إقامة القوات السعودية في لبنان التي كانت في عداد قوات السلام العربية و«كلنا يعرف كم تعرضت هذه القوة السعودية لاعتداءات كان يقف خلفها مناصرون لسوريا».
ويقول «مقرب» من الحكم السوري إن التصادم السعودي ـ السوري في لبنان ليس جديداً، بل «يعود إلى ما قبل الحرب الأهلية. ولكن بعد الحرب اتفق البلدان على تولي سوريا الشأن اللبناني بكل تفاصيله، وكانت دمشق حريصة طوال عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد على نيل ثقة السعودية في كل ما تفعله وتقرره في لبنان. والرياض تعرف جيداً الدور السوري الإيجابي في إنجاح مؤتمر الطائف ووقف الحرب، ولولا هذا الدور لفشلت السعودية في عقد المؤتمر وإنجاحهإ.
ويتابع: «بقيت العلاقة بين البلدين ودية رغم بعض التحفظات عن بعض الأمور، وكلنا يعرف كيف وصل الحريري إلى السلطة، فلولا التفاهم السعودي ـ السوري لما وصل الى رئاسة الحكومة، ومن هنا لا يمكننا وصف ما يجري اليوم من خلافات بين البلدين في شأن لبنان بأنه صراع واقتتال، بل هو اختلاف في وجهات النظر التي سرعان ما ستلتقي».
وفي مقابل هذا الرأي، فإن من يراقب في الوسط يجد أن الخلاف جاء بعد هدنة طويلة «انتهى مفعولها مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي كان يمثِّل نقطة التقاء بين الدولتين وما اصطلح على تسميته جوهر اتفاق الطائف، أي تقاسم النفوذ السوري ـ السعودي في لبنان حيث تسيطر سوريا وتمول السعودية وتعطي الشرعية العربية والدولية، لم يعد موجوداً، وخاصة أن الانسحاب العسكري السوري السريع من لبنان أعطى الرياض انطباعاً أن دور دمشق في لبنان انتهى وعليها ملء الفراغ. وهذا ما أدى إلى وقوع الصراع الذي نشهده الأن وهو صراع حول: الأمر لمن في لبنان».
ويضيف أن دور المملكة تاريخياً كان له صلات وثيقة مع مجموعات لبنانية سنية، ولكن هذا الدور تراجع لحساب النفوذ المصري ـ السوري في أعقاب الوحدة التي كانت تراها الرياض موجهة ضدها، و«بعد هزيمة 1967 وجدت السعودية الفرصة متاحة أمامها لإعادة بسط نفوذها في لبنان الذي لم يكد ينتعش حتى وصل حافظ الأسد إلى السلطة وأعاد نفوذ سوريا إلى لبنان».


ضغط وتلاق
لم تعارض السعودية الدخول السوري إلى لبنان عام 1976. لقمع «الحركة الوطنية»، إذ كانت تجد في «الجبهة اللبنانية» ضماناً للبنان. ولكن مع حصار مخيم تل الزعتر ووقوف سوريا إلى جانب القوات المهاجمة، حصل امتعاض سعودي ترجم بتجميد 700 مليون دولار من الإعانات السعودية السنوية لسوريا، كما أوقفت تمويل مشاريع استثمارية بقيمة 500 مليون دولار، وضغطت الرياض على العراق لوقف ضخ نفطه عبر الأراضي السورية ما حرم دمشق 300 مليون دولار عائدات سنوية.
ما بين 1970 و2000 اتفقت السعودية وسوريا على موضوعات عديدة أبرزها حرب تشرين 1973، وحرب لبنان 1975، وزيارة السادات إلى القدس، في كامب دايفيد، وانتصار الثورة الإيرانية والحرب الإيرانية ـ العراقية، والاجتياح العراقي للكويت وحرب تحريرها.