طموحات شابّة إلى دور سياسي مستقلّ وإلى منع مصادرة تاريخهميخطو الشباب المنبثق من رحم الأحزاب المسيحيّة في زمن الحرب نحو التحوّل من تجربة النزاع الأهلي إلى التجربة السياسيّة. وتمثّل أجيال القوّات اللبنانيّة المتعاقبة منذ بشير الجميّل حتى سمير جعجع، حال الخروج على المسارات التي طبعت كل مرحلة من تلك المراحل
أنطون الخوري حرب
تتشكل التباينات القواتية على خلفيات سلوك قادة الميليشيا منذ «انتفاضة 12 آذار 1985» التي أخرجت الدكتور فؤاد أبو ناضر من القيادة ومعه الأغلبية الساحقة من البشيريين لمصلحة رئيس جهاز الأمن إيلي حبيقة ومسؤول منطقة الشمال سمير جعجع، حيث تحول العمل العسكري نحو الصراع على السلطة، مودياً بأرواح الشباب القواتي، ولا سيما من تهجّر منهم من الشمال بسبب مجزرة إهدن عام 1978، والجبل والجنوب عام 1984، تاركاً أهله وأرزاقه ليسقط في يد زعمائه في «المنطقة الشرقية».
لكن ضمور المنضوين في «جبهة الحرية» المكوّنة من مسؤولين تركوا أحزابهم بسبب افتقادها المؤسسات الديموقراطية، بدأ بالنضج تدريجاً بعد سقوط الحضور السياسي المسيحي بالكامل عام 1990. وبعد خروج الجيش السوري من لبنان ربيع 2005، بدأت هذه المجموعة تفكر في إحياء دورها باستقلالية وبأهداف جديدة. وبدأ العمل ضمن خلوة للمجموعة المؤسسة خلال نيسان 2006 في أحد الأديرة بمنطقة كسروان، ثم كانت الإطلالة الإعلامية الأولى في حفل العشاء السنوي الأول عام 2007 في مطعم منارة الخليج. وشهد الحفل حشداً قواتياً كبيراً أضاف إلى البشيريين ضباطاً عملوا تحت إمرة إيلي حبيقة وسمير جعجع، وبات دافعهم الأساسي منع جعجع من مصادرة تاريخ القوات وتضحيات المقاتلين وتجييرها لطموحاته السياسية.
منذ انطلاقة الجبهة وما تلاها من انقسامات وانسحابات، تطوّر عمل أعضائها على صعيد الإنتاج السياسي. واليوم، يستعرض الدكتور فؤاد أبو ناضر إنجازاتها، بدءاً باقتراح «صيغة جديدة للعيش المشترك تأخذ في الاعتبار كل المحطات التي مررنا بها منذ زمن الحرب حتى انتهاء الاحتلال، وتقوم هذه الصيغة على قاعدة الحكم المناطقي الذي لا يشبه الفديرالية ولا الدولة الموحدة بل يشبه النموذج الفرنسي الذي يحافظ على وحدة مؤسسات الدولة السياسية والدستورية مع إعطاء كل مدينة أو مقاطعة نسبة عالية من اللامركزية الإدارية ونسبة أقل من اللامركزية السياسية. وبعد ذلك طرح موقف الحياد الإيجابي للبنان في القضايا الدولية والإقليمية، حيث يكون لبنان جزءاً من الموقف العربي الجامع في مواجهة إسرائيل.
وأما حين يتعلق الأمر بالخلافات العربية أو بموقف لبنان من بعضها، كسوريا على سبيل المثال، فعندها يجب أن يكون موقف لبنان نابعاً من مصلحته الوطنية العليا حتى لو كان ذلك على حساب مصالح الآخرين. بالإضافة إلى جملة نشاطات، كمؤتمر فندق الميتروبوليتان خلال آب الماضي حول التنظيم والديموقراطية، فضلاً عن سلسلة ندوات سياسية عن التجنيس والمفقودين في سوريا.
وترفض الجبهة خريطة الاصطفافات المسيحية واللبنانية، «فنحن نختلف عن الجميع ونتطلّع إلى استنهاض همم الفئات المهمّشة والمبعدة عن قوة التأثير في القرار المسيحي واللبناني. كما أننا نتواصل مع مجموعات شيعية ودرزية وسنّية من خارج تجمّعي 14 و8 آذار، وهم يفكرون مثلنا، دون أن يخرجوا من واقعهم ومحيطهم. فنحن كلبنانيين نرفض مواقف المعسكرات المنقسمة في البلد ونتطلّع إلى خلق دينامية أكبر عبر طرح أكبر نسبة من الخيارات على المسيحيين
والمسلمين».
أما عن المسؤولية عن الوضع الحالي، فترمي بها الجبهة على أطراف الصراع «لأنهم رفعوا سقفهم ولم يعد بإمكانهم أن يتراجعوا، وأدخلونا في نفق مظلم لا نرى له نهاية. والطريقة الوحيدة لإنهاء هذه الأزمة هي اقتناع كل طرف بعجزه عن الانتصار على الآخر، وعندها فقط يمكننا أن نجلس حول طاولة واحدة لنضع ميثاقاً وطنياً جديداً وفق صيغة متطورة عن صيغة وثيقة الطائف».
وتعمل جبهة الحرية على مواكبة الاستحقاقات المقبلة، ومن ضمنها الانتخابات النيابية التي سيكون للجبهة مرشحون كثر فيها، سواء كانت فرعية أو عامة، مبكرة أو ثابتة. «لكن الوقت لم يحن بعد لتحديد الحلفاء الذين لا بد من أن نتواصل معهم لاحقاً».
وعن النشاطات المستقبلية يقول عضو الجبهة عبده سعادة: «إننا في صدد تهيئة ندوة عن قانون الانتخابات قبل أن نبدأ بتحضير المؤتمر التأسيسي للجبهة نهاية الصيف المقبل، والذي سيشهد إقرار النظام الداخلي للهيكلية الحزبية ومجلس قيادة وتعيين منسّق عام».
تستعد الجبهة للعشاء السنوي الذي تنظمه في الذكرى الثالثة لانطلاقتها، الذي سيميّزه هذه المرة، إضافة إلى الحشد، نسبة الشباب والطلاب الجامعيين والثانويين، الذين سيمثّلون نواة قطاع شبابي جديد من شأنه أن يضخ الحيوية في الجسم الجبهوي، كما ستكون كلمة أبو ناضر الوحيدة بمثابة إعلان موقف الجبهة من القضايا السياسية المطروحة. وسيقتصر الحضور الرسمي على الأساقفة والكهنة المسيحيين من الشخصيات السياسية والحزبية، وقد تشمل الدعوة شخصيات دينية
إسلامية.
أما بالنسبة إلى تمويل الجبهة، فيكشف أبو ناضر «أن التمويل يأتي من مصدرين: الأول جيوب المنتسبين، والآخر من الرفاق الذين يعملون في الخارج، وأوضاعهم المالية جيدة، وهؤلاء سيشاركون في الانتخابات الداخلية للجبهة عبر الإنترنت. وهذه سابقة جديدة تسمح لأول مرة للمغترب اللبناني بالمشاركة في شؤون بلده».
ويبقى حلم أعضاء الجبهة الأكبر، بحسب سعادة، «الوصول إلى إرساء مؤسسة ديموقراطية تكرّس مبدأ الخدمة العامة وتداول المسؤولية، بدءاً برأس الهرم وصولاً إلى أدنى الأجسام التنظيمية».


محاولات حديثة
تصطدم محاولات جيل الحرب لدى المسيحيين للتخلص من رواسب الماضي وخلق أطر جديدة وعصرية للعمل السياسي بالكثير من العقبات الثقافية والسياسية لدى التجمعات المنافسة، ولا شك أيضاً في أن فكرة الديموقراطية ما زالت مبهمة ومشوّهة في المجتمع اللبناني، الذي تسوده الإقطاعيات التقليدية والحزبية. لكن محاولة جبهة الحرية، رغم الخطوات المريرة التي رافقت انطلاقتها، إنتاج نسبة عالية من العمل السياسي الديموقراطي، تمثّل نموذجاً جدّياً وسط السقوط السياسي العام.
والأمر كله يبقى متعلقاً بمدى جدية مسؤولي الجبهة وتنامي ثقافة الديموقراطية لديهم. وفي مقابل ذلك، يستمر الرهان على نجاحهم أو فشلهم.