إبراهيم الأمينالحريرية الخجولة عاشت سنوات طويلة تحت عباءة الظلام. لم يكن السبب وجود آليات قمع من النوع الذي يدفع بمناصري الرئيس رفيق الحريري إلى الاختباء. لكن الطريقة التي كان الحريري الأب يدير بها الأمور، كانت توزع جمهوره بين طابقين: أول يضم حشداً من المنتفعين والعاملين إلى جانب المفاتيح التي نشطت وثبتت حوله. وثانٍ سفلي حشد الكثير من المواطنين الذين كانوا يشعرون به زعيماً، لكنهم كانوا يفتقرون إلى آلية التواصل معه. وإذا كان الرئيس الراحل قد نسج آليات تواصل خفية مع جمهوره المضمر، فهو كان يحرص على اتباع واقعية سياسية شديدة، وبراغماتية تتيح له التفلت من الانفعال الجماهيري، وتبقيه ممسكاً بمفاتيح القلوب. وعندما رحل، خرج الجميع في لحظة واحدة، يعلنون الانتماء إلى ما مثّله الرجل بالنسبة إليهم، زعيماً سنياً قوياً، يشبه وينافس ولا يختلف عن زعماء بقية الطوائف الأقوياء: رجل متمكن وقادر على الحلول محل الدولة إذا أراد. حضور خارجي أكبر من حجمه الداخلي، تمثيل لتقاطعات محلية وإقليمية ودولية تجعله حاجة ولو عند خصومه، وقدرة على التمايل لكي يتقي شرّ الضربات الخاطفة، حتى ولو بدا كملاكم ثقيل الحركة.
بعد مقتل الحريري الأب، لم ينظر جمهوره إلى ابنه الوريث على أنه محدد السياسات. هذه المرة انقلبت الصورة. لقد قاد الأب جمهوره وفق ما قرره هو، وما رآه هو من مصلحة. لكن الابن جاء محمولاً على شعارات كان مريدو الأب يكتمونها لوقت طويل في صدورهم، وتحمل رغبة بالتفلت من ضوابط السياسة التقليدية بمعناها الاجتماعي. وإذ غاب عن الحريري الأب الإطار الإيديولوجي الحاد، فإن التيار الذي ثبّت ابنه زعيماً من خلفه وجد لنفسه الإطار الأنسب: عودة إلى الهوى اللبناني، ولو بشعارات مسيحيي جبل لبنان، وبُعد إسلامي بوجهه السعودي، وعروبة من النوع الذي يشبه كمال جنبلاط، حيث لا مجال للذوبان في المحيط، بل الاحتفاظ بخصوصية تعيد إلى الأذهان صورة الانعزالية اللبنانية، حيث هناك علاقة اقتصادية مع العمق العربي (نمط العمل في الخليج الغني) وعلاقة سياسية مع الغرب البعيد بوصفه حامياً للنظام السني الحاكم في العالم العربي، وقدرة هائلة على إبراز التمايز عن كل المحيط الآخر، وإظهار عناصر الاختلاف مع المسيحي التقليدي الذي يصبح تابعاً كحال مسيحيي 14 آذار، أو خصماً وعدواً كحال ميشال عون وقسم من الكنيسة، وعلى قاعدة أن الأخير يريد استعادة الدور الريادي السابق، بينما يريد الحريريون العودة إلى آليات الحكم السابقة لا إلى رجالاته.
لذلك، أفاق الحريريون من «النوم الأمني» كالذي تمارسه الخلايا، وسقطت في ما بينهم كل أشكال التمايز الطبقي والمناطقي. فصار عمار حوري ممثلاً أصيلاً لبيروت، ومصطفى علوش لا يجد نفسه غريباً عن فؤاد السعد، وبات ميشال فرعون راضياً بأن يترك لخصومه من التيار الناصري في بيروت أن يختاروه نائباً أو يُعفوه من هذه المسؤولية. فيما خرج كل سنّة الأطراف من الذين تعلموا وناضلوا مع ذويهم لعقود ثلاثة من أجل الانتماء إلى الطبقة الوسطى، ليؤدوا دوراً محورياً في إدارة المعركة: منهم المدد والعصب، ولهم بدل الدور المركزي الذي يؤدونه. وصار وجود عشرات الأبناء الفقراء من عرسال وقرى البقاع الغربي وعكار في بيروت وجوداً طبيعياً، أو ذلك الوجود الذي ارتضته الضواحي لنفسها خلال سنوات ما قبل الحرب وبعدها. لكن العقل البارد في هذا الفريق لا ينتمي إلى الضواحي، فقرر القبول بالمقايضة الكبرى: تعديل في صورة بيروت الطبقية، مقابل تكتل مذهبي يحوِّل الأقليات السياسية والطائفية الأخرى إلى إضافات بلا حراك وبلا فعالية. فصار فقراء عكار والبقاع يدافعون عن وسط بيروت كأنه منزلهم الريفي، ولو أنهم يزورونه فقط كمتظاهرين. وصار المشهد حاملاً لتناقضات لا سابق لها: هم أنفسهم أبناء الضواحي.
أبناء العرقوب القاطنون في الضاحية الجنوبية لبيروت يحتشدون في الوسط بوجه أبناء الجنوب القاطنين في الضاحية الجنوبية أيضاً. وهو نفسه مشهد الفقراء أنفسهم من الذين لفظتهم بيروت الحديثة المليئة بالباطون إلى الضواحي الجنوبية الغربية في خلدة وعرمون وجوارهما.
لم يكن الحريري الابن يعرف شيئاً عن درب أبيه. لقد ولد وعاش في ظروف لا تشبه البتة «ابن البستنجي» الذي حفظ الدروب القديمة و«تعتير» الأيام الصعبة. لكن الحريري الابن، لم يكن يحتاج إلى آليات كثيرة حتى يشعر بالعصبية تلتفّ من حوله، قابضة على نموه السياسي. فلم يعد يحتاج إلى دروس من الجنبلاطية الحكيمة حتى يثور على خصومه اليوم، ولم يأخذ من حلفائه أحفاد الجبهة اللبنانية سوى مفردات لبنان الذي رسمه الرحابنة الآباء قبل أن يدفنه الرحابنة الأبناء. وتحول الحريري إلى زعيم على تيار قائم بحدِّ ذاته.
وكل الإدارة التي قامت لاحقاً على شكل تنظيم وإعلام ومؤسسات أضرت بالتيار الأكثر حيوية في تاريخ سنّة لبنان ما بعد الاستقلال. حتى الأموال التي تنفق الآن بكثرة، لم تكن يوماً السبب الرئيسي في جعل العصبية ناشطة وعلى قيد الحياة. صحيح أنها تساعد على كسر الرتابة وعلى النشاط، لكنها ليست المحدِّد الثابت الذي يرسم طريقة فقراء السنّة أو أغنيائهم على حد سواء. ومثَّل الحريري الابن رمزاً لخطاب بدا كأن الحريري الأب كان يكتمه في صدره لسنوات طويلة، ومن وجد نفسه غير قادر على التعايش مع الحريرية الجديدة، ابتعد وظل يتحدث عن الأب كعنصر مختلف.
وهو الأمر الذي لا يريده الحريريون الآن، وبالتالي تُسقط من خطاب الحريري الأب المستعاد الآن صوتاً وصورة في وسائل الإعلام الحريرية، كل الكلام عن المشاركة أو العروبة بوجهها السوري أو عن المقاومة، ويجري اختيار العبارات الحمّالة للتأويل، تلك التي يريد الحريريون من الصنف الخجول القول إنها كانت تخفي موقفاً مضمراً، كما كانت عليه حالهم وهم يقبلون بأن يرضي زعيمهم الراحل رجال المخابرات السورية واللبنانية، أو الخضوع لابتزاز زعماء الطوائف الأخرى.
ثمة واقع يعيشه سنّة لبنان اليوم، يتعلق حصراً بانتشار أفقي وعمودي للحريرية التي جعلت الفريق الأكثر داخل السنّة يعاني وضعاً صعباً في المحاكاة وفي لفت الأنظار إليه. وجعلت الخصوم من الطوائف الأخرى يتصرفون على أنهم يواجهون طائفة بأكملها. وهنا بدأت مشكلة المعارضة.
غداً: الإسلام هو البديل.