د. أسامة الخالدي *أ- 2 + 2 = 4.
ب- المتنبي أبرز شعراء القرن الرابع الهجري.
ج- الله قادر على كل شيء.
د- البنسلين يشفي داء الرئة البكتيري.
الجمل الأربع أعلاه كلها صحيحة، لكنّ صحتها تختلف من واحدة إلى أخرى. فالجملة الأولى اصطلاحية، نحن نعرّف الأربعة بأنها اثنين زائد اثنين ولا يزيد محتواها على هذا التعريف. وإذا اتفقنا على معنى الاثنين والأربعة، فلن تضيف هذه الجملة الكثير إلى معلوماتنا، وتكون غير قابلة للشك، كما أنها غير قابلة للتعريض للتجربة للتأكد من صحتها لأنها تعرض لحقيقة رياضية، وكل الحقائق الرياضية غير قابلة للتشكيك في صدقيتها.
الجملة الثانية تعكس ذوق قائلها أو رأيه. وفيما يمكن الاعتراض عليها، وإعطاء أمثلة لدحضها أو أمثلة أخرى لإثباتها، لا يمكن إقناع مَن يصرّ على رأيه في الموضوع أن يغيّره. فالأذواق غير قابلة للنقاش كما يقول المثل اللاتيني.
الجملة الثالثة «دينية» أو «إيمانية»، وهي كسابقتها غير قابلة للتعرّض لتجربة لإثباتها، إذ إنّ مجرّد التفكير في التجربة يعني الشك في صحة الجملة، وخصوصاً أن الإيمان الديني يتطلّب اليقين والتشكيك ينفي الإيمان. في الوقت نفسه لا يمكن ابتكار تجربة لقياس قدرة الخالق، فكونه قادراً على كل شيء، هذا يتضمن قدرته على تغيير نتائج التجربة كما يشاء. إمّا أن تؤمن بها أو لا تؤمن.
الجملة الرابعة مبنيّة أساساً على نتائج تجربة أو عدة تجارب، وكما أن التجارب هي التي تؤكدها، فإنها نفسها هي التي يمكن أن تنفيها. وحتى لو كانت هناك مئات التجارب التي تثبت هذه المقولة، يبقى ممكناً أن تُجرى في المستقبل آلاف التجارب التي تدحضها. في هذه المقولة يمكن أن نسأل: هل كان البنسلين العنصر الفعّال في شفاء داء الرئة، أم أنها مادة أخرى موجودة مع البنسلين بنسبة ضئيلة جداً؟ هل أُجريت هذه التجارب على الأرانب أو الفئران؟ وهل ستكون النتائج نفسها لو أُجريت على الإنسان؟ ما هو إمكان حصول الشفاء بمحض الصدفة؟ إلخ.
مجمل القول، هو أنه بالعكس من الحقيقة الرياضية أو الذوقية أو الإيمانية، فإن الحقيقة العلمية قابلة للشك بالتعرّض للاختبار، هي دائماً معرّضة للنفي أو الإثبات، لأنها مبنيّة على تجارب، ونتائج التجارب لا يمكن أن تكون أكيدة. أي إنه لا توجد حقائق علمية بالمعنى الدقيق للحقائق. وكل ما نسميه بالحقائق العلمية ما هو إلّا نتاج لتجارب نقبل بها ونعمل على أساسها ما دامت التجارب تؤكد صدقها، لكننا في الوقت نفسه مستعدون لرفضها في أية لحظة. ومع أن أية حقيقة علمية لا تتعدى كونها «فرضية علمية» إلاّ أن درجة التأكد من صحتها قد ترتفع إلى ما يقارب اليقين في بعض الحالات وإن كانت لا تصله مطلقاً، وهذا ما سمح ببناء منظومة علمية هائلة تعتمد عليها المدنية الحديثة كما يعتمد عليها العيش اليومي للإنسان. إن مجرد وجود الشك في جميع الحقائق العلمية، وإن كان شكاً فلسفياً فقط، يضفي على المنظومة العلمية تلك المرونة التي تسمح بتطور العلم، وتعطي ذلك التطور الدفع القوي للاستمرار والتقدم.
رغم ذلك، يمكن في أي وقت من الأوقات تحويل الجمل الثلاث الأولى إلى علمية، من خلال إجراء تعديل بسيط عليها كأن نقول:
ـ أخبرنا معلم الحساب أن 2 + 2 = 4.
ـ تؤكد الكتب الدينية أن الله قادر على كل شيء.
ـ يعتقد أكثر الأدباء أن المتنبي أبرز شعراء القرن الرابع الهجري.
عندها تصبح هذه الجمل قابلة للتعرّض للتجربة لإثباتها أو نفيها. ولإثبات الأخيرة، يمكن مثلاً سؤال ألف أديب عمّا إذا كانوا يعتقدون أن المتنبي هو أبرز شعراء القرن الرابع الهجري، فإذا وافقت الأكثرية على ذلك تكون الجملة قد نجحت في التجربة العلمية... لكن نجاحها ليس مؤكداً. هل يمثّل الألف أديب الذين طرح عليهم السؤال مجموع الأدباء؟ هل كان ذلك رأيهم الآني أم الثابت؟ هل يكفي أن نسأل ألف أديب؟ ماذا لو سألنا جميع الأدباء؟ إلخ.
أي إننا عندما حوّلنا الجملة من «ذوقية» غير قابلة للمناقشة أو الشك، إلى علمية، نكون قد وضعناها على محك نتيجته غير مؤكدة كنتيجة تعريض أي مقولة علمية للاختبار. الشيء نفسه ينطبق على الجمل الإيمانية أو الجمل الرياضية إذا ما حوّلت إلى مقولات علمية. بل إن هذه الجمل لا تتحوّل إلى مقولات علمية إلّا بتعريضها للشك.
تبقى الإشارة إلى مفارقة طريفة. غالباً ما نجد بعض الكُتّاب يستعملون معلومات علمية، حديثة، للتأكيد على صحة بعض ما جاء في أحد الكتب المقدسة، وفي رأينا أنهم بهذا يرتكبون خطأً من ناحيتين: الأولى أنهم بذلك عرّضوا الكتب المقدسة للشك، والثانية أنهم يستعملون في حجّتهم حقيقة علمية غير ثابتة للتأكيد على موضوع يكون الشك فيه كافياً لنفي الإيمان، الذي لا يقبل الشك فيه.
* رئيس المركز الوطني
للتكنولوجيا الحيوية في عمان