نقولا ناصيفكيف قوّمت واشنطن القمّة العربيّة في دمشق، وأي دور اضطلعت به على هامش انعقادها بغية أن لا تفضي إلى نتائج إيجابية، وخصوصاً أن تعليقها الأولي فور ارفضاضها أنها كانت «قمّة فاشلة»؟
استناداً إلى مطّلعين عن قرب على موقف واشنطن، فإن المسؤولين الأميركيين واكبوا استعدادات القمة بنشاط واسع النطاق، بعضه سرّي والبعض الآخر علني. وقبل أيام من انعقادها، سعى الأميركيون إلى دفع العرب للوقوف ضد سوريا من أجل أن يخلقوا تحالفاً عربياً معتدلاً مناوئاً ويمارس ضغوطاً حادة على نظام الرئيس بشار الأسد. وهم بذلك أرادوا أن يكون لبنان (والمقصود فريق الغالبية الحاكمة الواسعة النفوذ في الحكم) من ضمن هذا التحالف. ولاحظ الأميركيون في تحرّكهم هذا ضرورة وضع سوريا وإيران وحزب الله وحركة حماس في معسكر واحد في سياق المواجهة. وكانت زيارة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني للسعودية في 21 آذار الفائت، قبل أسبوع من انعقاد قمة دمشق، أحد الأهداف المباشرة للتحرّك الأميركي.
وفق المعطيات المتوافرة لدى المطلعين على الموقف الأميركي، فإن تشيني وجد لدى مضيفه العاهل السعودي الملك عبد الله «الإرادة والنيّة» للعمل على تقويض جهود سوريا الساعية إلى استرجاع موقعها في العالم العربي على نحو ما يتشبّث به الأسد من خلال تدخّله في شؤون جيرانه وتحالفه مع إيران، محاولاً الاحتفاظ بما كان عليه نظام والده الرئيس حافظ الأسد. إذ أضفى على بلاده صورة الدولة القادرة على تخويف الدول المحيطة بها وزعزعة استقرارها. ومثّل ما لمسه تشيني في زيارته للرياض هدفاً مركزياً للمملكة تشترك فيه واشنطن بغية إضعاف الدور الإقليمي لنظام الأسد، وتجريده من نفوذه في لبنان وفلسطين والعراق عبر حزب الله وحماس والمجموعات المسلحة التي تستهدف الجيش الأميركي واستقرار حكومة نوري المالكي في العراق.
وبحسب استنتاج المطّلعين أنفسهم، فإن نائب الرئيس الأميركي استخلص مبرّرات عدة لما عدّه «إقداماً استثنائياً» للسعودية على معاداة سوريا:
أولها، اقتناع الرياض بأن دمشق وراء الاغتيال البشع لرئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، صديق السعودية والقريب من العائلة الحاكمة في المملكة.
ثانيها، اعتقاد الرياض بضرورة تلقين سوريا درساً قاسياً، هو أن لا تعتمد في حكمها وعلاقاتها العربية والدولية ورسم استراتيجياتها على بلد آخر غير عربي. وهي إشارة إلى تحالفها مع إيران في مواجهة العرب الباقين.
ثالثها، قلق الرياض من صعود الجمهورية الإسلامية و«الأصولية» الشيعية التي ترافق هذا الصعود في شكل حمل المسؤولين السعوديين على القول إنه إذا لم يصر إلى وضع حد للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وخصوصاً في لبنان، فستجد المملكة نفسها مجبرة على مقاتلة هذا البلد في الخليج العربي. وتفهّم الأميركيون دوافع هذا المنطق، والقلق الذي ينطوي عليه، لكونهم خبروا واقعاً مماثلاً حملهم على القول إبان حرب فيتنام إنهم إن لم يقاوموا الشيوعية ويحاربوها في الهند الصينية، فسيجدون أنفسهم مجبرين على مقاتلتها عند شواطئ كاليفورنيا. ويبدو أن الرياض وواشنطن تبادلتا مبرّر هذا الخوف.
بدورها، أوردت الرياض أسباباً إضافية أخذت فيها على الإدارة الأميركية دورها السلبي في المنطقة، من غير أن تجهد ــ أو أن ترغب على الأقل ــ لتحقيق الاستقرار وتقديم اقتراحات جدّية، وأبرزت ملاحظات، منها:
ــ أنها تحمّل واشنطن مسؤولية ما آل إليه الوضع في العراق، نظراً إلى مسؤوليتها عن السماح لإيران بالتدخل غير المباشر، وعلى نحو غير مسبوق، في شؤون العراق.
ــ تحوّل مؤتمر أنابوليس الذي انعقد في الولايات المتحدة في 27 تشرين الثاني المنصرم من هدف التوصّل إلى تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى ما يشبه فرصة لالتقاط صورة (photo- op)، رغم المشاركة الكثيفة لأكثر من 40 دولة ومنظمة دولية ليس لمعظمها علاقة مباشرة بالصراع العربي ــ الإسرائيلي. مع ذلك استجاب السعودية لأهمية انعقاد المؤتمر وانتظروا أن يفضي إلى تحرّك يستكمل غاية انعقاده، وهو المضي في مسيرة السلام بين هذين الطرفين. فإذا بهم يحبطون من المرحلة التالية لمؤتمر أنابوليس. وقف الجميع في الصورة التذكارية بمن فيهم سوريا التي استفادت من حضورها إياه. لكن دونما بلوغ ما رمى إليه المؤتمر. وهي مسؤولية أميركية أولاً وأخيراً ــ تقول الرياض ــ ما دامت صاحبة المبادرة وراعيتها والأكثر فاعلية وقدرة على تحقيق التسوية.
ووفق ما لمسه الأميركيون من أصداء نظرة السعوديين إليهم، فإن هؤلاء الأخيرين أوجزوا موقفهم من إدارة الرئيس جورج بوش، بعد أكثر من سبع سنوات على وجوده في الحكم، وهي أن أميركا نجحت في ظله أن «تكون بعبعاً غير محبوب وغير محترم».
تبعاً لنتائج زيارة تشيني إلى السعودية ضمن جولة خليجية وشرق أوسطية شملت أيضاً سلطنة عمان والعراق والأراضي الفلسطينية وإسرائيل وتركيا، تتبّعت واشنطن لدى حلفائها العرب الجهود السورية لانعقاد القمة العربية على أراضيها، آخذة في الاعتبار تعزيز المقاطعة العربية لهذه القمة بغية توجيه رسالة صارمة إلى الأسد، وهي أن نظامه سيستمر محاصراً عربياً ودولياً ما لم يقدم على التنازلات التي يحضه عليها العرب والمجتمع الدولي، بوقف تدخله في شؤون جيرانه. وفي خلاصة ما يشير إليه المطلعون على الموقف الأميركي، أدرجت واشنطن قمة دمشق في نتيجتين اثنتين:
ــ فشل السوريون حيث نجح الأميركيون في تحقيق أهدافهم، وأخصّها توسيع نطاق المقاطعة العربية للقمة. كان التمثيل السعودي والمصري والأردني، وفق التعبير الأميركي، «مهيناً» للدولة المضيفة، إضافة إلى ارتياح واشنطن إلى تغيّب لبنان عن المشاركة في القمة، فحضر وهو غائب رغم محاولة المسؤولين السوريين، ولا سيما وزير الخارجية وليد المعلم، التصرّف وكأنه لا مكان للأزمة اللبنانية في أعمال القمة.
ــ صدور بيان ختامي أرضى الأميركيين، إذ وضع العلاقات اللبنانية ــ السورية في عهدة الجامعة لأول مرة، بعدما حاولت دمشق تعمية هذا الجانب من الخلاف مع لبنان، وكذلك بينها وبين العرب الآخرين والمجتمع الدولي، وأظهر أنها العقبة الرئيسية التي تحول دون حلّ الأزمة، دون تخلي واشنطن عن تحفظها عن المبادرة العربية التي لا تريد منها سوى: انتخاب رئيس جديد، ووضع العلاقات اللبنانية ــ السورية على طاولة البحث.