باريس ــ خضر سلامةتكاد لا تخلو أي مدينة فرنسية من طلاب جامعيين لبنانيين. فالأعداد تتضاعف مع الأزمات السياسية والاقتصادية التي، كلما عصفت بالوطن، تضرب بقسوة جدار الثقة والتواصل بين الطلاب والجامعات المحلية. ثم إنّ السمعة الجيدة للطلاب اللبنانيين وكفاءتهم تجعلانهم يحظون بمعاملة مميزة من المسؤولين الفرنسيينقبل ثلاث سنوات، آثر علي صفي الدين المجيء إلى فرنسا بدلاً من ألمانيا، «فهنا لا أحتاج إلى تضييع سنة كاملة لدراسة اللغة، لكوني أتحدّر من بلد فرنكوفوني، ثم إنّ الدولة تساعدني في تسديد إيجار المنزل بنسبة تصل إلى 60%، كما يُسمح لي بإبرام عقد عملٍ حدّه الأقصى ثمانون ساعة شهرياً، إلى جانب دوامي الدراسي، وهو غالباً ما يكفيني لسد نفقاتي اليومية».
وإذا كانت النفقات هي الهم الأكبر لأي مقيمٍ هنا، فسمير ناصر الدين الذي يتابع الدراسات العليا في الهندسة، يبحث في فرنسا عن المناخ الملائم للبحث العلمي. ينتقد سمير المناهج التعليمية «المهترئة» في لبنان، والنظام الذي يحجّم الطموحات العلمية للباحث. ويقول: «طبعاً هناك جامعات خاصة تقدم شيئاً من المطلوب، ولكن التكلفة السنوية قد تتجاوز التكلفة في فرنسا، وبالتالي فما الفرق إذا كنا عاجلاً أو آجلاً سنضطر إلى السفر بحثاً عن العمل، بعيداً عن وطنٍ يخنق شبابه بالبطالة؟». ثم يُسقط سمير الوضع العام في لبنان على اختصاصه، «جئتُ هرباً من ندرة فرص العمل في الوطن والتي وإن وجدت، لا تعطيني إلا الأجر الزهيد مقارنةً بما يتطلبه المستقبل من اكتفاءٍ
مادي».
ولكن، لماذا فرنسا هي الخيار الأقرب إلى قرار الطالب اللبناني؟ يشير الملحق الثقافي في السفارة اللبنانية في باريس عبد الله نعمان إلى أنّ عدد الطلاب اللبنانيين في فرنسا قبيل الحرب الأهلية لم يتجاوز يوماً الخمسة آلاف طالب، وخلال الحرب، ارتفع العدد إلى 17 ألفاً خلال سنة واحدة. أما اليوم، فالعدد يراوح سنوياً بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألفاً، يضاف إليهم على الأقل خمسة عشر ألفاً آخرين، من حملة الجنسية الفرنسية ذوي الأصول اللبنانية، والذين لا تحصيهم الدراسات الفرنسية الرسمية مع الرقم الأول.
أما لماذا الجامعات الفرنسية دون مثيلاتها في أوروبا؟ «الدوافع كثيرة»، يقول نعمان، «فالسبب الأول هو اعتماد اللغة الفرنسية بنسبةٍ عالية في الهيكلية التعليمية اللبنانية، ما يسهّل ويسرّع اندماج الوافد اللبناني في الحقل الاجتماعي والجامعي الفرنسي، ثم إنّ التعليم الجامعي في فرنسا مجاني، فلا يتطلب الانتساب إلى الجامعات والمعاهد سوى رسوم التسجيل، ويترافق هذا الدافع مع قيمة الشهادة الجامعية الفرنسية الرفيعة، أي تلازم مجانية التعليم مع مستواه العالي يشكل سبباً مقنعاً لاختيار فرنسا». ويرى نعمان أنّ لتاريخ الهجرة اللبنانية القديمة إلى فرنسا دوراً أساسياً، حيث تشد صلات القرابة برأيه، الطالب اللبناني ليختار مجتمعاً يملك فيه معارف وعلاقات، «ولا ننسى أيضاً عامل مسافة السفر وكلفته الأقل نسبياً من دول ما وراء الأطلسي، ما يتيح المجال لزيارات سنوية أو خلال الأعياد إلى الوطن الأم».
من جهته، يؤكد المسؤول في جمعية AULF للطلاب اللبنانيين في فرنسا، شربل الحاج أنّ العلاقة التاريخية والتأثير الثقافي لفرنسا على لبنان يجمعان كل الباحثين اللبنانيين عن العلم في فرنسا في سلةٍ واحدة، إضافة إلى الأسباب الاقتصادية والوقائع الاجتماعية التي تميز التعامل الرسمي الفرنسي والاهتمام المعطى هنا للقطاع الجامعي، والسياسة الاقتصادية الفرنسية الداخلية، التي تعطي الشأن الاجتماعي دعماً مميزاً عن باقي دول أوروبا.
ويتابع الحاج: «ينقسم الطلاب اللبنانيون في فرنسا إلى فئتين أساسيتين، الوافدون مباشرةًً من الدراسة الثانوية إلى سنتهم الجامعية الأولى في الليسانس، والملتحقون بسنوات الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)، والفئة الثانية هي الأسرع اندماجاً، نظراً لأوجه الشبه بين هيكلية النظام الجامعي اللبناني والنظام الجامعي الفرنسي، إضافة إلى السمعة الجيدة للطلاب اللبنانيين في الدراسات العليا، ما يجعلهم يحظون بمعاملة مميزة من المسؤولين».
يذكر أنّ مدينة باريس وحدها تضم حوالى 40 في المئة من الطلاب اللبنانيين في فرنسا، وتشكل من بعدها مدن مرسيليا وغرينوبل وستراسبورغ أهم التجمعات الطلابية اللبنانية، لطلابٍ يشغلهم عند وصولهم هاجس السكن ومن ثم المصروف.
ويتوزع اللبنانيون بين السكن الطلابي والسكن الخاص، وبين الخانتين فرق واضح في التكلفة الشهرية، وغالباً ما يفضل مسؤولو السكن الطلابي الجامعي طلاب الدراسات العليا على طلاب الليسانس، أما المصروف العام فيختلف بقوة من منطقةٍ فرنسية إلى أخرى، لكنّه لا يتجاوز ثمانية آلاف يورو سنوياً، وهي قيمةُ تناسب البعض مقارنةً بالجامعات الخاصة في لبنان، وتخنق البعض الآخر بالهمّ المعيشي، ولا سيما إذا ما استحضر الغلاء الفاحش الذي تشهده أوروبا منذ مطلع العام على جميع الأصعدة، ويكون الجسم الطلابي الفردي ضحيته الأولى، واقعاً بين سندان هذا الغلاء ومطرقة الاختناق الاقتصادي في لبنان الذي يجبر الفرد على تحمل مسؤوليته في الغربة.
الدفق الطلابي من لبنان صوب جامعات فرنسا، طوّبته الدولتان ببروتوكول تعاون تربوي حمل اختصاراً اسمC.E.D.R.E (accord de .coopération pour l'évaluation et le développement de la recherche وقّع البروتوكول عام 1995 بين وزير التربية اللبناني ووزير الخارجية الفرنسي بحضور رئيسي الدولتين حينها. الاتفاق لا يزال ساري المفعول ويترجم اهتمام الدولة الفرنسية بالأدمغة والباحثين اللبنانيين، وأهمية هذا الاتفاق تكمن في أنه ينظّم العلاقة التربوية وينشّطها، ويُطبق على شكل مساعدات للمؤسسات التعليمية وإشرافٍ على المستوى التعليمي للدراسات العليا، وأيضاً على شكل منحٍ مقدمةٍ من السفارة الفرنسية ضمن شروطٍ وتحت خانة التنسيق مع الطرف اللبناني.
تُقنع هذه المعطيات الطالب اللبناني باستكمال دراسته في الجامعات الفرنسية، بناءً على معطيات التاريخ والمجتمع والثقافة، والتقديمات الاجتماعية والاقتصادية الأسهل نسبياً للمقيم في فرنسا من غيرها، يتكامل ذلك مع اهتمام المؤسسات التربوية الفرنسية باستيراد الكفاءات اللبنانية المتاحة للمستقبل، لصقلها والاستفادة منها مستغلةً العجز المحلي عن إشباع نهم الطالب الدراسي والمهني لاحقاً وهواجسه الخاصة وأحلامه، عبر تسهيلات كثيرة مقدمة من الدولة الفرنسية لطلاب البلد «العضو المؤسس في الفرنكوفونية العالمية».
وبين هذه الأسطر من العلاقة الجدلية بين الطالب اللبناني والعمق التعليمي الفرنسي، تبقى نسبة الهجرة الشبابية والعلمية إلى فرنسا وغيرها، مرتبطةً بعوامل أهمها الأزمات التي تدفع الشاب إلى جمع قدراته وكفاءاته في حقيبة الهرب من الواقع المظلم، إلى بلادٍ سواء استقبلته باللين أو بالشدة، تبقى رغم جمالها وعطاءاتها «غربة قاسية» يشوبها الشوق الدائم إلى وطنٍ قد يخرج يوماً من رماده ليليق بحجم الآمال والأحلام في قلوب أبنائه.