strong>عمر نشابةتؤكّد المسؤولة في الأمم المتحدة راضية عاشوري أنه «لا رجوع عن إنشاء المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان» وتحقّق المنظمة الدولية تقدّماً ملحوظاً في مرحلة التحضير لانطلاقها. لكن ثمّة ما يعرّض صدقيّتها للاهتزاز وذلك قياساً بالمعايير المهنية القانونية الدولية ومقتضيات تحقيق العدالة

أعلن، فجر أمس، رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي دانيال بيلمار أنه طلب من مجلس الأمن تمديد مهماته لكي يتمكّن من جمع المزيد من الأدلّة عن الشبكة الإجرامية التي يشتبه فيها باغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري. يشير ذلك إلى أن توجيه الاتهام الجنائي الذي يعدّ الخطوة اللافتة الأولى التي ستقوم بها المحكمة، سيتأخّر عن الموعد الذي كان متوقّعاً والذي كانت وسائل الإعلام وسياسيون موالون لحكومة فؤاد السنيورة قد ذكروا أنه في مطلع الصيف.
وكان مجلس الأمن الدولي قد أنشأ في 30 أيار 2007 المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عبر إصداره القرار 1757 تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وذلك بعدما تعذّر التوافق الداخلي في لبنان بشأن التوقيع على اتفاقية دولية بين الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية. وقدّم الأمين العام للأمم المتحدة حتى اليوم تقريرين للمجلس عن الخطوات التي تمّ اتخاذها لانطلاق عمل المحكمة، وذكر فيهما أنه تمّ تحديد مقرّ المحكمة في هولندا وتعيين القضاة والمسجّل والهيئة الإدارية. كما تمّ انتداب المدعي العام الدولي والتمهيد لانتقال ملفات التحقيقات من لجنة التحقيق الدولية المستقلة إلى مكتب المدعي العام الدولي وقاضي ما قبل المحاكمة.
ومع اقتراب موعد اكتمال التحضيرات الأولية لانطلاق عمل المحكمة، تلفت «الأخبار» إلى بعض القضايا التي تؤثّر سلباً على صدقية المحكمة في أعين شريحة واسعة من اللبنانيين ومن المراقبين العرب والدوليين.
اختفاء مشتبه فيه
أكّد وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، خبر «اختفاء» الشاهد والمشتبه فيه محمد زهير الصديق من فرنسا، حيث كان يقيم منذ انتقاله إليها عام 2005 من المملكة العربية السعودية. وكانت الفقرة 104 من التقرير الأول للجنة التحقيق الدولية قد حددت الصديق مشتبهاً فيه في جريمة اغتيال الحريري. يذكر أن قرار مجلس الأمن 1636 كان قد ألزم «جميع الدول» باتخاذ «التدابير الضرورية لكي تمنع هؤلاء الأفراد (الذين تشتبه فيهم اللجنة) من دخول أراضيها أو عبورها». لكن يبدو أن فرنسا تعتبر نفسها غير معنية بالقرار 1636 أو أنّ السلطات الفرنسية فضّلت مخالفة قرار دولي ملزم عمداً لأسباب مجهولة. لكن ذلك الغموض و«اختفاء» أحد الشهود والمشتبه فيهم باغتيال الحريري في فرنسا مع اقتراب موعد المحاكمة يثير الشكوك في صدقية المحكمة، وخصوصاً أن فرنسا عضو دائم في مجلس الأمن ومساهم أساسي في تمويل المحكمة وأحد أكثر المتحمّسين لاستخدام المحكمة سياسياً عبر التلويح بها في إطار سياسي، كما كان واضحاً في تصريحات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في القاهرة في 30 كانون الأول 2007.
الاعتقال التعسّفي
أعلن فريق العمل المعني بالاعتقال التعسفي في مفوضية حقوق الانسان في الأمم المتحدة في 30 تشرين الثاني 2007 أنها ترى أن اعتقال وسجن أشخاص لفترة زمنية بلغت أكثر من سنتين ونصف دون المحاكمة أمر مخالف لمعايير العدالة الدولية ويعدّ اعتقالاً تعسّفياً. وكان القاضي سيرج براميرتس كما خلفه القاضي بيلمار ومعاون الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال قد رأوا أن بتّ مسألة اعتقال الضباط الأربعة وآخرين في قضية اغتيال الحريري يعود «حصرياً إلى السلطات القضائية اللبنانية». إن مخالفة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي التزم لبنان باحترامه تضعف حجّة الحكومة اللبنانية باللجوء إلى الأمم المتحدة لتحقيق العدالة وإنشاء محكمة دولية خاصّة. ومن هذا المنطلق، يعرّض اعتقال أشخاص دون مبرّر قانوني في قضية الحريري صدقية المحكمة الدولية للاهتزاز.
أداء ميليس
خالف الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية المستقلة في قضية الحريري القاضي الألماني ديتليف ميليس المعايير المهنية والقانونية الدولية عبر نشره أسماء شهود وأجزاءً من شهاداتهم في تقريره الأول دون وجود برنامج لحمايتهم. وتعرّض أحد الشهود للاغتيال في 12 كانون الأول 2005 ولم تكن لجنة التحقيق قد أمّنت احتياطات أمنية لحمايته.
الأستاذ في جامعة جورجتاون في واشنطن الدكتور داوود خير الله ذكّر بقاعدة أساسية في تحقيق العدالة، وهي أن «التحقيق سرّي والمحاكمة علنية»، لكن ميليس قرّر غير ذلك عبر تسريبه معلومات عن تفاصيل التحقيق إلى وسائل الإعلام. كذلك ذكر ميليس عدداً كبيراً من الأسماء في تقاريره العلنية وحذف جزءاً منها، ما يثير تساؤلات عن دقّة وحرفية عمله.
إن تجاوز الجهة المخوّلة جمع الأدلة التي ستعرض أمام المحكمة للمعايير المهنية والقانونية يفتح المجال أمام تشكيك في أخذ المحكمة بتلك الأدلّة.
تبدّل المحققين
انتقل التحقيق في جريمة اغتيال الحريري بين أيدي عدد كبير من المحققين الدوليين واللبنانيين. فمن القاضي رشيد مزهر انتقل ملف التحقيق إلى القاضي ميشال أبو عرّاج الذي قرّر التنحي عنه لأسباب مجهولة، إلى القاضي الياس عيد الذي طلب وكلاء بعض ذوي الضحايا تنحيته للارتياب المشروع بعدما حقّق في الملفّ نحو سنة ونصف. فانتقل الملف أخيراً إلى يد القاضي صقر صقر. أما في ما يخصّ التحقيق الدولي فكان قد انطلق بواسطة لجنة تقصّي حقائق برئاسة الإيرلندي بيتر فيتزجيرالد، ثمّ انتقل إلى لجنة التحقيق الدولية المستقلة برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس، ومنه إلى خلفه القاضي البلجيكي سيرج براميرتس، وأخيراً إلى القاضي الكندي دانيال بيلمار. يذكر أنه مع كلّ تغيير للمسؤولين عن التحقيق كان يتغيّر جزء كبير من فريق التحقيق، وهذا يعني أن عدداً كبيراً جداً من رجال الأمن والشرطة وربما الاستخبارات قد اطّلعوا على جزء من مستندات التحقيق والدلائل، فيما لم يعودوا أعضاءً في فريق المحققين في هذه القضية. قد يتيح ذلك فرصاً عديدة لتسريب معلومات سرّية عن التحقيق إلى جهات قد تسرّبها إلى الجناة، ما قد يمكّنهم من الإفلات من الإدانة في المحكمة.
الانقسام الداخلي والدولي
استعجل رئيس الحكومة الإقرار الدولي للمحكمة الخاصة في جريمة اغتيال الحريري ولم يعط الجهد الكافي لتأمين التوافق الداخلي بشأنها. فعندما طلب عدد من الوزراء مهلة لدراسة مسوّدة نظام المحكمة أصرّ السنيورة على عدم تأجيل موعد جلسة إقرار المحكمة، ما دفع هؤلاء الوزراء إلى الاستقالة. ربّما لم يتنبّه السنيورة إلى أنّ نجاح عمل المحكمة رهن بالتوافق الداخلي اللبناني. فلن يعترف عدد كبير من اللبنانيين بصدقية أي إجراء أو قرار يصدر عن محكمة يعتبرونها مسيّسة بحيث إن نظامها لم يأخذ بملاحظات قيادات محلية تحظى بشعبية واسعة بسبب عدم توافر الإطار الدستوري لذلك.
الانتقائية في الاختصاص
إن المحكمة الخاصّة بلبنان هي المحكمة الدولية الوحيدة التي يقتصر اختصاصها على جريمة اغتيال سياسية إرهابية محدّدة وجرائم أخرى إذا ثبت تلازمها معها. ولا تدخل في اختصاص هذه المحكمة جرائم كبيرة أخرى سقط جرّائها عدد من اللبنانيين يفوق عدد اللبنانيين الذين سقطوا في جريمة اغتيال الحريري. لا بل إن الأمم المتحدة تعتبر اغتيال الحريري إرهاباً (القرار 1595) بينما لا تُعتبر جرائم الجيش الاسرائيلي في كل المناطق اللبنانية خلال عدوان تموز 2006 جرائم إرهابية. ألا يهزّ ذلك صدقية محكمة دولية للبنان لا تنظر في جرائم أدّت الى استشهاد أكثر من ألف لبناني؟
غياب المعايير المفصّلة
القرار 1757 يشير الى إنشاء المحكمة «استناداً الى أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية». ويفترض أن يتضمّن احترام تلك المعايير وضع معايير مفصّلة لاختيار القضاة وتعيين الموظفين للتأكد من استقلاليتهم وكفاءتهم. لكن ميشال قال لـ«الأخبار» أخيراً إنه لا معايير مفصّلة لاختيار القضاة. ونعيد تكرار السؤال: ألا يفترض أن تدرس الأمم المتحدة تفاصيل السيرة المهنية وحتى الشخصية لكلّ قاض مرشّح للانضمام الى المحكمة قبل تعيينه؟ أوليس ذلك ضرورياً، وخصوصاً ما يتعلّق بتعيين القضاة اللبنانيين بعدما كان الرئيس الشهيد الحريري قد أعلن سابقاً أن «القضاء في لبنان مسيّس»؟