حسن عليقلجأ السياسيون إلى تحصين أماكن سكنهم لاتقاء العمل الأمني المعادي لهم. ونشأ عن الإجراءات الأمنية واقع مخالف للقانون، لم يتّضح بعد كيف ستتمكن المؤسسات الأمنية من تخطّيه، لتحافظ على أمن المسؤولين وحرية المواطنين في الوقت ذاتهالارتدادات الأولى للتفجيرات الإرهابية التي استهدفت سياسيين وصحافيين وأمنيين خلال السنوات الثلاث الماضية، ظهرت على شكل طرقات مقفلة وحواجز إسمنتية وحديدية، تسوِّر منازل السياسيين، محوّلة المناطق المحيطة بأماكن عملهم وسكنهم إلى ما بات يُعرَف بالمربّعات الأمنية التي لا تني تمتدّ في جميع الاتجاهات. هذه الإجراءات المطلوبة لحماية «المسؤولين» تعوّض النقص الحاد الذي تعانيه الأجهزة الأمنية في مجال الأمن الوقائي الاستعلامي، الذي من المفترض أن يلعب دوراً رئيسياً في كشف الأعمال الإرهابية عندما تكون في مراحلها الإعدادية. وغالباً ما يقطن السياسيون بين مناصرين لهم يتفهّمون إلى حد كبير الإجراءات المتخذة لحماية الزعماء، ويستعد العدد الأكبر منهم للتضحية بشيء من الخصوصية والحرية الشخصية، من أجل الحفاظ على حياة قادتهم. ورغم أن الواقع الذي ينشأ في بعض هذه المربعات يبقى خارج أي إطار قانوني، يعاني مواطنون عدم القدرة على الاعتراض الرامي إلى الحفاظ على حريتهم بعدم الإدلاء بما يمس خصوصيتهم.
ومن يعبر الشوارع المحيطة بمنزل آل الحريري في قريطم، يجد إلى جانب الأبنية الفخمة مدرّعات للجيش اللبناني مموّهة بشوادر مرقّطة تُستَخدم عادة في ساحات النزاع المسلح. وأنّى نظرتَ تقع عيناكَ على كاميرات للمراقبة، تُحدِّق بكل ساكن ومتحرّك. وكلما اقتربتَ من «القصر» يزداد عدد الأمنيين بلباس قوى الأمن الداخلي، أو باللباس المدني الذي يحمل أصحابه أسلحة وأعتدة خاصة بالإنزالات، ويشبهون، إلى حد بعيد، العاملين لحساب الشركات الأمنية الخاصة في العراق.
«استمارة أمنيّة»
التداخل بين الرسمي والخاص، والعسكري والمدني، لا يقتصر على المظهر. فعلى سبيل المثال، تُوَزَّع على السكان في محيط منزل آل الحريري في قريطم استمارات تتضمن معلومات شخصية عن قاطني الشقق والعاملين في المؤسسات التجارية.
تعلو الاستمارةَ عبارة الأسف على «إزعاجكم لضرورات تتعلق بأمننا وأمنكم». المُخاطَب في الكلمات المذكورة معلوم، فهم، كما توضِح جملة أدنى منها، «كل أسرة تسكن في الجوار» غير المحدّد، أما المخاطِب فغير مُعَرَّف عنه. تضم الاستمارة خانة خاصة باسم رب الأسرة، وأخرى للشارع والبناية والطابق والشقة ورقم الهاتف، ثم الأسئلة الآتية:
ـــ صفة إشغال الشقة (ملك ـــ إيجار ـــ إعارة ـــ مصادرة ـــ غير ذلك)
ـــ منذ متى تشغلون هذه الشقة؟
ـــ هل إقامتكم في هذه الشقة أساسية أم ثانوية؟
ـــ عنوان الإقامة الأخير إذا وُجِد
ـــ للاستدعاء عند الضرورة
ـــ معلومات عن القاطنين في الشقة (بمن فيهم رب الأسرة والزوجة)، وتتضمن: الاسم والشهرة، محل الولادة وتاريخها، الجنسية، المهنة، عنوان العمل ورقم الهاتف
ـــ عدد غرف الشقة
ـــ هل تطل شقتكم على منزل دولة الرئيس؟
ـــ هل في داخل المسكن أسلحة أو ذخيرة أو معدات حربية أو عسكرية أو لاسلكية؟ أذكرها بالتفصيل
ـــ وجهة استخدام الشقة: (للسكن فقط، للسكن والعمل، للعمل فقط، غير ذلك)
ـــ معلومات عن السيارات التي يستخدمها أي من ساكني الشقة: (اسم مستخدم السيارة وشهرته، صفة الاستخدام، وجهة الاستعمال، نوعها، رقمها، لونها)
ـــ هل ينتمي أحد ساكني هذه الشقة إلى جهة سياسية أو حزبية أو جمعية؟ (اسم المنتمي، اسم الجهة، نشاطها، عنوانها، دور المنتمي إليها).
وبعد هذه الأسئلة، يترك منظمو الاستمارة «الحرية» لساكني الشقة بذكر الملاحظات التي يرونها ضرورية، قبل طلب توقيعها «مصرّحاً على مسؤوليته أن كل المعلومات المدوّنة في هذه الاستمارة صحيحة».
للوهلة الأولى، لا يبدو أن للقوى الأمنية الرسمية علاقة بهذه الاستمارات. لكنّ عدداً من المواطنين القاطنين في المربّع ذكروا لـ«الأخبار» أنهم رفضوا تعبئة «الاستمارة الأمنية» عندما طلب منهم ذلك شبان مدنيون عرّفوا عن أنفسهم بأنهم من «الأمن»، من دون إبراز أي بطاقات تعريف. في اليوم التالي، عاد الشبان حاملين استمارة مطابقة للأولى، ممهورة بختم «قوى الأمن الداخلي ـــ مجموعة حراسة منزل دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ـــ آمر المجموعة الملازم محمد تمام برجاوي»، لكن من دون أي توقيع.
لا أحد من المسؤولين الأمنيين يُفَسِّر ما يجري، معيدين الأمر إلى الواقع الصعب الذي تعيشه البلاد، والذي يُبنى فيه، من أجل الحماية، واقع مخالف للقانون ومتعدٍّ على الخصوصية والحريات الشخصية. وإن أحداً لم يوضح ما هي علاقة قوى الأمن الداخلي، وآمر مجموعة الحماية، بالانتماء السياسي للمواطنين وبعدد غرف الشقة ومعلومات شخصية أخرى يُطلَب الإدلاء بها بحكم الأمر الواقع.
وجه آخر لهذا الواقع هو إقفال بعض المؤسسات التجارية في المربّع نتيجة انخفاض نسبة الزبائن المترددين إلى الشوارع التي مُنِع على السيارات (وعلى المشاة في بعض الممرات) عبورها. وبين الواقع الأمني والحريات والخصوصية، لا أحد يذكر علي عمران، حارس المبنى المقابل للمدخل الجنوبي لمنزل الحريري في قريطم، الذي دُفِعَ إلى ترك عمله الذي قضى فيه أكثر من 20 عاماً، نتيجة «الاشتباه فيه»، من دون أدنى دليل يُعتَدّ به.