strong>أحيا اللبنانيون، أمس، الذكرى الثالثة والثلاثين لاندلاع الحرب الأهلية بأنشطة دعت إليها جمعيات أهلية حذرت من «تكرار مآسي الحرب»، وانطلقت مسيرتان عبرتا مختلف أحياء بيروت بما فيها خطوط التماس القديمة، إضافة إلى الأحياء والمناطق التي تشهد حالياً توترات أمنية على خلفية طائفيةعلى طول خطوط التماس كانت مسيرة من آلمتهم السنوات الثلاث والثلاثون، مسيرة من يعيشون في الذاكرة، ذاكرة شبابٍ خرجوا ذات يومٍ ولم يعودوا، وأمّهاتٍ يحضنّ بطاقة تحمل صورة اسمها مفقود، ومقاتلون نادمون وضحايا خائفون من حربٍ جديدة. هذا كان أمس فقط، أمّ باكية، تنتظر عدسة كاميرا تُفرغ أمامها بعض ممّا عاشته «في النبعة...أيّام التهجير القسري».
جلّ ما تملكه هذه المرأة صورة واحدة وشمعة ووردة واسم تردّده خوفاً من أن تنساه ربّما، أو خوفاً من أن يُنسى وسط 17365 مخطوفاً... وكيس أحمر تحمل في داخله دواء يسعفها عند «ضيقة النفس» وبضع أوراقٍ أو مذكّراتٍ كانت قد تقدّمت بها في وقتٍ سابق إلى جهاتٍ عدّة تطالب فيها بمعرفة مصير ابنها. مشت أم أحمد الهرباوي، تعرف أنّها تحيي 33 سنة مرّت على ذاكرتها من دون أيّ خبرٍ عن الابن الغائب، تعرف قصّة خطّ الشيّاح ــ عين الرمانّة وسيرة القنّاص أيضاً، فيما مشى آخرون لم تكد تتجاوز أعمارهم عمر الذكرى، وكأنّهم يشاركون في يومٍ «ماراتوني» عادي يشبه أيّام نيسان الأخرى.
هكذا كانت مسيرة «وحدتنا خلاصنا» التي نظّمتها 42 جمعيّة من المجتمع المدني، أمس. لم تكن مسيرة لزعيم، مسيرة على نيّة «المصالحة والمصارحة» في ذكرى الحرب.
المسيرة بدأت عند تقاطع مار مخايل، فكانت في الخطّ الأوّل مسيرة ضحايا الحرب ومن لم يعيشوها، مقعدين ومعوّقين وتلامذة مدارس مسرحوا الحرب كما سمعوا عنها، تلطّخوا بألوان الدم وحملوا عدّتها من ناقلات الجرحى...والجرحى أنفسهم والقتلى، مذيّلين مسرحهم بيافطة لـ«يللي نسي يتذكّر».
ولكن لا أحد يعتقد بأنّ الذاكرة ستفقد تفاصيل الحرب، فثمّة ما يذكّر بها على طول خطوط التماس، مبانٍ بعمر الذكرى، من دون أن تحمل صورة «بوسطة عين الرمّانة» يعرفها المشاركون من فجوات الرصاص وأعمدتها المبتورة. إلى جانب فتية المدارس، توزّع حملة الرايات السوداء، يحوطون بها العلم اللبناني، من دون أيّة كلمةٍ، باستثناء موسيقى الفرق الكشفيّة الصاخبة والكافية وحدها لاستعادة ذكرى الموت والدمار.
من مار مخايل إلى التماس الثاني عند مستديرة الطيّونة، اللحظات نفسها، موسيقى صاخبة ورايات سوداء تخطف بلونها بريق العلم الأحمر والأبيض. عند الطيّونة، ساد الصمت الرهيب، صمت على الغائبين، على الصور التي تزنّر المستديرة، وكأنّها مستديرة جاثمة وسط الطيّونة منذ عام 1975 بألوانها السوداء والبيضاء. هم بقوا في الطيّونة مع أمّهاتهم، وأكملت المسيرة طريقها الصامت، وسط عيونٍ تتأمّل الذكرى من شرفات المنازل. لا شيء جديداً فيها، باستثناء بضع نساء خرقن الصمت بورودهنّ البيضاء التي وزّعنها عشوائياً على حاملي الرايات، أملاً بسلامٍ يشبه الرايات البيضاء التي استعاض بها الشباب عن الرايات السوداء عند خطّ البربير ــ رأس النبع.
لا يزال التماس في أوّله، فثمّة نقاط لم نتجاوزها بعد ومنها تقاطع بشارة الخوري ــ السوديكو، التي لم تكن كسابقاتها. فهنا، حضر جدار إضافي وسط الطريق، فرفض كلّ من المشاركين الحرب على طريقته، بإمضاءٍ أو حادثةٍ أو اسمٍ. أكملت بعدها التظاهرة باتّجاه وسط البلد، حيث كان من المفترض أن تخرق حاجزين، أوّلهما اعتصام المعارضة التي سهّلت القوى الأمنيّة نصف الطريق، والحاجز الثاني في ساحة الشهداء حيث تكفّل بعض الشباب، أوّل من أمس، بنزع الأسلاك مؤقّتاً، لإفساح المجال أمام الإعلاميين للحديث عن تجاربهم في فترات الحربين، تلاها «دعاء الطوائف» على نيّة لبنان.
اختراق بؤر أمنية جديدة
وفي الوقت الذي كانت فيه مسيرة «وحدتنا خلاصنا» لم تنته، بدأ «اتّحاد الشباب الديموقراطي» و«تيار المجتمع المدني» مسيرة أخرى انطلقت من تحت جسر الكولا. لكن هذه المرة اختلفت الرسالة ولم تكن تقليدية. بل كانت مسيرة معبّرة فنياً خرقت بؤراً أمنية جديدة. منطقة الطريق الجديدة التي كادت أن تكون شعلة لحرب أهلية أخرى اجتازتها المسيرة. «ما بدنا حدود جديدة بين الضاحية و الجديدة» شعار هتف به المشاركون عند دخول المنطقة.
سكان المحلة خرجوا إلى الشوارع والشرفات. نظرات متفاجئة تسأل عن هوية الشباب. «خطوة جريئة وجيدة»، يراها أبو عمر، حلاق في منطقة الجديدة، متمنياً على جميع السياسيين الوحدة والابتعاد عن الحرب. هذا ضحية انفجار. قنّصت وهي تشتري الرغيف، لأي سبب؟ امرأة تسأل، لماذا خطفتم ولدي؟ وأخرى فقدت جميع أفراد عائلتها. هذه صرخات الشباب الذين حملوا شعارات على أجسادهم. البعض لبس الأكفان وبعضهم أخذ دور الزعيم الذي يجرّ المواطنين وراءه. اتّخذت المسيرة شكلاً فنياً للتعبير عن معاناة الحرب والواقع السياسي الحالي في الوقت نفسه.
الهدف الأساسي هو رفض منطق الحواجز الطائفية الموجودة في شوارع بيروت التي أصبحت «كمتاريس للحرب» يقول عربي العنداري، الأمين العام لاتحاد الشباب الديموقراطي.
باسل العبد الله، مسؤول تيار المجتمع المدني، رأى أن العلمانية من الأولويات، كما أن الدولة لا تنهض في ظل غياب النظام العلماني. أحمد (13 عاما) كان يمرّ من منطقة بربور وشارك في المسيرة لأن بوادر الحرب وشيكة و«ما بدي الناس تعيدا»، مرّت المسيرة بمناطق البربير والنويري والبسطة التحتا. «شياح وأشرفية، ما بدنا الطائفية» و«لا شرقية ولا غربية، بدنا دولة علمانية» ردّدها المشاركون عند نقطة الوصول إلى الأشرفية. كان بعض المارة يحيّون الشباب وبعضهم يصفّق لهم. جينان وأولادها رأت المسيرة «tres civilise» وتمنّت أن يصل صراخ المواطنين إلى آذان المسؤولين. كان محيط السوديكو خاتمة للمتاريس اللبنانية. حيث أكد المشاركون في بيان ختامي مشترك رفضهم للتجاذبات والمشادات السياسية القائمة بين الزعماء الطائفيين في لبنان، معلنين أولوياتهم في بناء الدولة المدنية ــ العلمانية باعتبارها السبيل الوحيد للهوية المواطنية. ورأى البيان أن الخطوة كانت لرفع الصوت نحو التكامل في المواطنية ضدّ الحواجز الطائفية.
ثم قدّم بعض المشاركين مسرحية رمزية وضعت المواطنين بين خيارين، إمّا العودة إلى عام 75 أو بناء دولة حديثة. أدخل خلالها الزعيم السياسي بناية بركات التي أصبحت رمزاً للحرب وقرّر الآخرون سلوك طريق دولة القانون والمؤسسات.
متاريس أسعد الأسعد
في شارع أسعد الأسعد انقسم أهل منطقة واحدة منذ ثلاث وثلاثين سنة إلى طائفتين متناحرتين، وحوّلوا شارعهم إلى أحد خطوط التماس العديدة التي رسمت حدود دويلاتهم.
لا تزال عبارة «خط عين الرمانة ــ الشياح» تثير في أذن من عايش الحرب، طنيناً خاصاً، يسكنه الخوف من الدماء والجثث والخطف. استدراكاً لهذا الواقع، حمل شباب قطاع بيروت في حركة الشعب، المتاريس وأعادوها إلى مكانها السابق، في شارع أسعد الأسعد، ليذكّروا الناس بأنهم هم من يحمي السلم الأهلي، وأنّه بقرارٍ منهم تعود المتاريس أو تبقى ذكرى سيئة في تاريخ بلدهم.
«13 نيسان... للتذكير لا للنسيان» هذا ما أكّد عليه هؤلاء الشباب، من خلال النشرة التي وزّعوها والتي حملت نفس العنوان. وزّعوا النشرة على المارّين الذين قابلوهم بالإيجابية حيناً وبالسلبية احياناً اخرى. ما الحلّ إذاً؟ هل توعية اللبنانيين وتذكيرهم بمآسي الحرب كافٍ؟ «لا حلّ إلا بقطع رأس أوروبوروس، لا الاكتفاء بمداعبة ذنبه» جواب واضح لسعد محيو كتبه في افتتاحية النشرة التي وزّعها الشباب. وأروبوروس لمن لا يعرفه هو تنّين أسطوري، رأسه يبتلع ذنبه فيصبح جسده كلّه دائرة مغلقة واحدة.
(شارك في التغطية: راجانا حمية، رشا أبي حيدر، وليال حداد)